(مما يتصور به حال الكتاب «الموافقات» للإمام الشاطبي رحمه الله في الأذهان من ملامح تفصيلية):
سابعها: بيان أحوال المقاصد الشرعية ومنها: (أي تلك الأحوال) كونها منقسمة إلى أصلية وتبعية. وبذلك فإن القاصد لأحد القسمين يصح عمله، إلا أن القصد إلى الموافقة الشرعية في الأصلية يكسب الثواب والأجر دون التبعية، فإن أقصى ما تثمره صحة الفعل ودرء البطلان. وقد كرر -رحمه الله- هذا الأصل إشعارا منه بعظم فائدته، ومنفعة الاستضاءة به في بناء الأحكام الفقهية.
وذو التزود بهذه الفائدة -القاعدة- يسهل عليه التفرقة بين حكم المقصد التبعي، والأصلي فيما يعرض له من نوازل ومسائل.
ومنها: كونها تراعى في بناء الأحكام الفقهية وتستحضر للاستضاءة بمقتضاها فيه وعرض الحكم الثابت بالنص لمعرفة ذلك الحكم والمقصد الشرعي منه، ثم وضعه تحت كليه الجاري حكمه عليه، سواء كان ذلك الكلي ضروريا أو غيره، فبذلك يتم بناء الحكم الفقهي.
ومن تمام الفائدة في هذا الشأن أن يعلم أن إدراك كون الجزئيات داخلة تحت الكليات الثلاث لا يكون على الدوام موضع القطع، بل قد يعرض في ذلك ما يقتضي الأخذ بالظن فيه، وقد يكون هذا هو الأصل فيما يجري فيه النظر والاجتهاد من ذلك، لأمور تعارضت فيه.
وهذا قد بينه مفصلا إمام الحرمين الجو يني في (مراتب قياس المعنى) من باب ترجيح الأقيسة من كتابه (البرهان)، وفي هذا المعنى قال الإمام الرازي في المحصول: “إن كل واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك القسم، وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه، بل يختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون وقد استقصى إمام الحرمين -رحمه الله- في أمثلة هذه الأقسام ونحن نكتفي بواحد منها قال -رحمه الله-: قد ذكرنا أن حفظ النفوس بشرع القصاص من باب المناسب الضروري. ومما نعلمُ قطعا أنَّه من هذا الباب شرعُ القصاص في المثقّل، فإنّا كما نعلم أنّه لولا شرع القصاص في الجملة لوقع الهرج والمرج: فكذلك نعلم أنّه لو ترك في المثقّل لوقع الهرج، ولأدّى الأمر إلى أنّ كل من أراد قتل إنسان فإنّه يعدل عن المحدّد إلى المثقّل: دفعا للقصاص عن نفسه، إذ ليس في المثقّل زيادة مؤنة ليست في المحدّد، بل كان المثقّل أسهل من المحدّد… وعند هذا قال رحمه الله: لا يجوز في كل شرع تُرَاعى فيه مصالح الخلق عدم وجوب القصاص بالمثقّل”.
قال -رحمه الله-: “فأما إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة فإنه يحتمل أن يكون من هذا الباب، لأنه لا يظهر كونه منه. أما وجه الاحتمال فلأنا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة: لأدى الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان استعان بشريك ليدفع القصاص عنه: فتبطل الحكمة المرعية بشرع القصاص. وأما أنه لا يظهر كونه من هذا الباب فلأنه يحتاج فيه إلى الاستعانة بالغير، وقد لا يساعده الغير عليه، فليس وجه الحاجة إلى شرع القصاص ها هنا مثل وجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد” (المحصول في علم أصول الفقه 2/221-222).
ومنها: كون الأدنى منها يخدم -أي يكمل- الأعلى، فالحاجيات والتحسينيات تخدم الضروريات، والتحسينيات تخدم الحاجيات، وهذا يثمر في الأذهان أن المقصود في ذلك كله إنما هو حفظ الضروريات، فليتخذ ذلك أساسا في النظر الفقهي.
ومنها: أن الاختلال في الضروريات يوجب الاختلال في الحاجيات والتحسينيات، بخلاف الاختلال في هذه فإنه لا يخل بتلك -الضروريات-.
ومنها: أنها غير تابعة لأهواء النفوس، ولا هي معتبرة بها، وإنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، وهذا أصل مهم يجب أن لا يغفل عنه في مجاري الاعتماد على المصالح والمفاسد في بناء الأحكام الفقهية.
ومنها: بيان أن لهذه المقاصد علامات تدل عليها تؤخذ من أحوال الخطاب الشرعي -كالأمر والنهي- واعتبار العلل والتحديد في المقدار والزمان، والمكان، وغير ذلك مما ذكره في كتاب الأدلة وفي كتاب المقاصد وخاصة آخره، وأعاد ذكره في كتاب الأدلة، وزاد عليه.
وهذا إذا حصل في الأذهان علمت به المقاصد وأدركت في مواطنها، وبأماراتها وعلاماتها الدالة عليها.
1. ومنها: أنها في شأن الحفظ لها مرتبة بالأولوية، وذلك بتقديم الأعلى منها على ما دونه، على ما تقدم ذكره ولا يخفى ما في هذا من فائدة الترجيح عند التعرض.
ومنها: أن المصالح يلغى اعتبارها إذا عارضتها المشقة غير المعتادة.
وهذا العلم به ينشئ في النفس معرفة الحدود التي تنتهي فيها رعاية المصلحة، وبذلك ينتقل إلى اعتبار المشقة، وبناء الحكم على مقتضاها.
ثامنها: بيان أحوال الأدلة الجملية التي تشترك فيها، جميع الأدلة التفصيلية الخاصة ببسط، وبيان ما يبنى على كل حال منها من أحكام ومعارف.
وذلك يبصر بهذه الأحوال، ويودع في الأذهان ما يتعلق بها من أحكام، ويرشد إلى سبل النظر وإعمال الأذهان في ذلك.
تاسعها: التنبيه على تغير نظر المفتي في مواطن الأحكام بحسب أحوالها والأوصاف الطارئة عليها.
عاشرها: بيان أن المقاصد المتعلق بها الحكم الشرعي أقسام ثلاثة:
أحدها: المقاصد الأصلية.
ثانيها: المقاصد الشرعية التبعية.
ثالثها: المقاصد المناقضة للمقاصد الشرعية.
حادي عشرها: بيان أن مقاصد المكلف -أيضا- على أضرب ثلاثة:
أحدها: المقاصد الموافقة للمقاصد الشرعية الأصلية.
ثانيها: المقاصد الموافقة للمقاصد الشرعية التبعية.
ثالثها: المقاصد المناقضة لهذه المقاصد كلها.
ثاني عشرها: مد النظر والتأمل إلى بنيته الشرعية التي استبان من حالها أنها متكاملة أحكامها بعضها مع بعض، والشروط فيها مع مشروطاتها، وغير ذلك مما يوخذ أن الشريعة آية الرحمان في أحوالها، وتوازن سعائرها ومضمناتها، وفي بنائها على نسق منتظم في الإثمار، وموافقة أحوال النفوس، والواقع.
ثالث عشرها: بيان كيفية اقتناص القطعيات من الظنيات.
وغير ذلك مما هو من جنس هذه المسائل -كوجوب رعاية السياق-، وهو كثير.
وللبحث بقية