من فقه البيوع أحكام المال الحرام (الحلقة الثامنة) [معاملة أصحاب المال الحرام] ياسين رخصي

من المسائل المتعلقة بأحكام المال الحرام: حكم معاملة أصحاب المال الحرام، وهي من مهمات المسائل لكثرة البلوى بها وشدة السؤال عنها، فيقع السؤال عن حكم معاملة حائز المال الحرام بالبيع والشراء. وعن حكم إجابة دعوته وقبول هديته؟ ونحو ذلك مما تمس الحاجة إلى معرفته.
وجوابا عن ذالك نقول:
– إن معاملة حائز المال الحرام لا تخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يقع التعامل مع حائز المال الحرام في عين المال الحرام الذي لم يخالطه مال حلال.
الحال الثانية: أن يقع التعامل مع حائز المال الحرام في مال مختلط حلال وحرام، ثم قد يكون الحلال هو الغالب، وقد يكون الحرام هو الغالب.
وثمة حال أخرى ذات صلة بالبحث وهي: معاملة المسلم الذي وقع الشك في وجود الحرام في ماله[1].
وسنتعرض في هذه الحلقة للكلام عن الحال الأولى وهي:
حكم معاملة حائز المال الحرام في عين المال المحرم:
قد يحوز المسلم مالا محرما، إما بسرقة أو غصب أو ربا أو قمار أو بيع خمر أو خنزير وما أشبه ذلك، فهل يجوز معاملة من هذا شأنه؛ إذا علمنا أن تعامله سيقع بعين المال الحرام الذي اكتسبه من هذه الوجوه؟
والجواب: أن الأصل في هذه الأموال الخبيثة أنها لا تدخل في ملك حائزها، بل الواجب عليه أن يتحلل منها إما بردها إلى أصحابها أو التصدق بها، على تفصيل سيأتي في موضعه إن شاء الله.
فمن عامل حائز المال الحرام في هذا المال فقد عامله فيما لا يملك؛ بل عامله في ملك غيره، ولذلك فإن هذه المعاملة تقع باطلة. وأيضا فإن معاملته فيها إقرار لما بيده من مال حرام، وتفويت لهذا المال على صاحبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ما في الوجود من الأموال المغصوبة والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض إن عرفه المسلم اجتنبه، فمن علمت أنه سرق مالا، أو خانه في أمانة أو غصبه فأخذه من المغصوب قهرا بغير حق لم يجز أن آخذه منه؛ لا بطريق الهبة ولا بطريق المعاوضة ولا وفاء عن أجرة ولا ثمن مبيع ولا وفاء عن قرض، فإن هذا عن مال المظلوم”[2].
وبنحو ذلك قال ابن رشد -الجد- في فتاويه[3].

  • وقد استدل أهل العلم على ما سبق بأدلة منها:

ما روى أبو داود وصححه الألباني: عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر: “أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه، فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاءَ، وجيء بالطعام، فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَلوك لقمة في فمه، ثم قال: “أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها” فأرسلت المرأة قالت: يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع يشترى لي شاة؛ فلم أجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بها بثمنها[4] فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته، فأرسلت إلي بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أطعميه الأسارى”.
قال في عون المعبود: “أَطْعِمِيهِ أي: هَذَا الطَّعَام ‏ “الْأَسَارَى” جَمْع أَسِير وَالْغَالِب أَنَّهُ فَقِير. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُمْ كُفَّار وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوجَد صَاحِب الشَّاة لِيَسْتَحِلُّوا مِنْهُ وَكَانَ الطَّعَام فِي صَدَد الْفَسَاد، وَلَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ إِطْعَام هَؤُلَاءِ فَأَمَرَ بِإِطْعَامِهِمْ”[5] انتهى كلامه رحمه الله.
وجه الدلالة من الحديث: امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من أكل لحم الشاة التي أخذت بغير إذن مالكها؛ دلّ على أنه لا يجوز معاملة حائز المال الحرام في عين المال المحرم.
ومما استدل به أيضا ما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: “كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ[6] وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَهُ الْغُلَامُ أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ”[7]، ووجه الدلالة منه ظاهر.
وبالله التوفيق.
—————-
[1]– انظر أحكام المال الحرام لعباس البار (ص:227).
[2]– فتاوى ابن تيمية (29/323).
[3]– فتاوى ابن رشد (1/645).
[4]– أي أرسل بالشاة بالثمن الذي اشتريتها به.
[5]– عون المعبود (6/220).
[6]– الخراج ما يقرر السيد على عبده من مال يحضره له من كسبه.
[7]– صحيح البخاري حديث رقم 3842.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *