مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا” متفق عليه.
هذا الحديث وافق الآية، ويعالج ظاهرة من الظواهر الاجتماعية التي تنخر في جسد الأمة الإسلامية، كما أنه يضع الأصبع على أصل مهم ألا وهو صونُ عرض المسلم غاية الصيانة، وذلك لتقدم النهي عن الخوض فيه -أي بالظن- الذي هو بمعنى التهمة التي لا سبب لها، ومن ثم فقد سوَّغ الشيطان لكثيرٍ الخوضَ في هذا حتى إنك لو اعترضت لقال الظان أبحث لأتحقق، لذلك قيل له ولا تجسسوا، فإن قال تحققته من غير تجسسه، قيل له لا يغتب بعضكم بعضا.
نعم ما أعظم هذا الدين الذي أعطى للعرض حقه ومستحقه، وصانه من العبث، بل جعل لذلك أحكاما تخصه، وفي قوله تعالى: “اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ” إشارة إلى أنه أذِن للمؤمنين أن يظن بعضهم ببعض الخير، قال تعالى: “لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً”.
ورحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه القائل: “لا يحل لامرئ مسلم سمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوءا وهو يجد لها في شيء من الخير مصدرا”، يقول الغزالي رحمه الله وغفر له: “والظن عبارة عما تركنُ إليه النفس ويميل إليه القلب، وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل، فعند ذلك لا تعتقد إلا ما علمته وشاهدته، فما لم تشاهده ولم تسمعه وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق”.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “ولا تجسسوا ولا تحسسوا” لفظتان معناهما واحد، يقول ابن عبد البر رحمه الله: “وهو البحث والتطلب لمعايب الناس ومساوئهم إذا غابت واستترت، لم يحل لاحد أن يسأل عنها ولا يكشف عن خبرها.. فالقرآن والسنة وردا جميعا بأحكام هذا المعنى، وهو قد استسهل في زماننا فإن لله وإنا إليه راجعون على ما حل بنا”.
وقد ثبت في سنن أبي داود وابن حبان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: “إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما نفعني الله به، سمعته يقول: “أعرضوا عن الناس، ألم تر إنك إذا اتبعت الريبة في الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم”.
وفيه أيضا أي في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي وهب قال أتي ابن مسعود فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرا، فقال رضي الله عنه: “إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به”.
وعلى كل حال فالأصل في المسلم التستر، فلا يهتك إلا بدليل مع مراعاة المصالح والمفاسد، إذ الشرع عموما جاء لتكثير المصالح وتقليل المفاسد، فاللهم استر عورتنا وآمن روعتنا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “ولا تنافسوا” أي الدنيا فتهلككم كما أهلكتهم، وأما على الخير وفي الخير ففي “ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ”.
وقوله: “ولا تحاسدوا” أي لا يتمنى أحدكم زوال النعمة عن غيره، لأن ذلك قدح في الاعتقاد واعتراض على المنان، ورحم الله القائل:
ألا قل لمن ظل لي حاسدا *** أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه *** لأنك لم ترض لي ما وهب
فجازاك عني بأن زادني *** وسد عليك وجوه الطلب
وقوله صلى الله عليه وسلم: “ولا تباغضوا ولا تدابروا” قال ابن عبد البر رحمه الله: “في هذا الحديث من الفقه أنه لا يحل التباغض، لأن التباغض مفسدة للدين حالقة له، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتواد والتحاب..”، وقال في موطن آخر: “وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه أو يولد على نفسه مضرة في دينه أو دنياه، فإن كان ذلك فقد رخص له في مجانبته وبعده، ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية”.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “وكونوا عباد الله إخوانا” زاد ملسم كما في الفتح: “كما أمركم الله” وهذا من باب التعليل لما سبق في الحديث، فترك تلك المنهيات مجلبة للأخوة الصادقة ولو على وجه العموم.
وعبر صلى الله عليه وسلم بلفظ (عباد) ليذكر بأن الجميع عبيد لله، فينبغي المحافظة على هذا الأصل، قال القرطبي رحمه الله تعالى: “والمعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة”.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “تضمن الحديث تحريم بغض المسلم والإعراض عنه وقطيعته بعد صحبته بغير ذنب شرعي، والحسد له على ما أنعم به عليه، وأن يعامله معاملة الأخ النسيب، وأن لا ينقب عن معايبه، ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب، وقد يشترك الميت مع الحي في كثير من ذلك”.
فاللهم أعنَّا على العمل بكتبك وسنة نبيك، والصبر على عبادك، وصلى الله على نبينا وآله وصحبه.