من فقه البيوع النوع الثاني من البيوع المحرمة: بيوع الغرر (الحلقة السابعة) المحاقلة والمزابنة ياسين رخصي

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وعن الثنيا إلا أن تُعلم”(1).

اشتمل هذا الحديث على أربع مسائل: الأولى: المحاقلة، الثانية: المزابنة، الثالثة: المخابرة، والرابعة: الاستثناء في البيع.
وسنتكلم في هذه الحلقة عن المسألتين الأوليين:

المسألة الأولى: المحاقلة
قال أبو عبيد: “هي بيع الطعام (كالبُر) في سنبله بالبر (أي بكيل معلوم من البر) مأخوذ من الحقل وهو الحرث وموضع الزرع”(2).
قال الشوكاني: “وأخرج الشافعي في المختصر عن جابر أن المحاقلة: أن يبيع الرجل الزرع (أي الحب في سنبله) بمائة فرق(3) من الحنطة”(4).
العلة في المنع في المحاقلة(5):
أنها جمعت بين محذورين: الجهالة المفضية إلى الغرر، والربا؛ أما الجهالة: فإن بيع الحب في سنبله مجهول غير معروف من حيث المقدار ومن حيث الجودة والرداءة. وأما الربا: فبيع الحب بحب من جنسه يشترط فيه التساوي(6)، فإذا جهل التساوي أفضى ذلك إلى الربا، لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
المسألة الثانية: المزابنة
قال في الفتح: “هي مفاعلة من الزبن، بفتح الزاي وسكون الموحدة، وهو الدفع الشديد، ومنه سميت الحرب الزبون لشدة الدفع فيها، وقيل للبيع المخصوص مزابنة كأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع لفسخه وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع”(7).
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع ثَّمَر حائطه (أي بستانه) إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيلِ طَعَامٍ، ونهى عن ذلك كله”.
قال ابن دقيق: “وحقيقتها (أي المزابنة) بيع معلوم بمجهول من جنسه، وقد ذكر في الحديث لها أمثله من بيع التمر بالتمر، ومن بيع الكرم بالزبيب، ومن بيع الزرع بكيل طعام”(8).
وفي الصحيحين عن ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم: “نهى عن المزابنة، قال والمزابنة: أن يبيع الثمر (على رؤوس الشجر) بكيل (من جنسه): إن زاد فلي وإن نقص فعلي”.
قال ابن حجر: “فثبت من صور المزابنة أيضا هذه الصورة من القمار، ولا يلزم من كونها قمارا ألا تسمى مزابنة، فتحَصَّل مما مضى أن: العلة في المنع من المزابنة: اشتمالها على الجهالة المفضية إلى الغرر، والربا”(9).
تنبيه:
يستثنى من النهي عن المزابنة بيع العرايا، والعرايا جمع عرية وهي عطية ثمر النخل دون الرقبة (أي دون النخل نفسه)، كان العرب في الجدب يتطوع أهل النخل بذلك على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة وهي عطية اللبن دون الرقبة.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: “وقال مالك: العرية أن يعري الرجلُ الرجلَ النخلة (أي يهبها له أو يهب له ثمرها) ثم يتأذى بدخوله عليه، فرخص له (أي للواهب) أن يشتريها (أي يشتري رطبها) منه (أي من الموهوبة له) بتمر (أي يابس)”(10).
وهذا البيع على هذه الصورة هو عين المزابنة، وإنما رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم للحاجة إليه.
ولكن لا يصح بيع العرايا في أكثر من خمسة أوسق(11) لحديث أبي هريرة: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق” رواه البخاري ومسلم.
وسيأتي في الحلقة القادمة -إن شاء الله- الكلام عن مسألتي: المخابرة، والاستثناء في البيع.
والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- أخرجه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه الترمذي، وقال النووي في شرح مسلم (10/195): إسناده صحيح، وتابعه الحافظ في الفتح، والحديث أصله في مسلم (1536).
2)- أنظر البدر التمام شرح بلوغ المرام للقاضي الحسين بن محمد ابن سعيد المغربي (ص: 3/46).
3)- الفرْق: بسكون الراء، وتحرك، مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع. القاموس المحيط (3/372).
4)- نيل الأوطار (4/49).
5)- أنظر توضيح الأحكام من بلوغ المرام لآل بسام (2/423).
6)- لحديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد” رواه مسلم.
7)- فتح الباري (4/485).
8)- إحكام الأحكام (2/102).
9)- فتح الباري (4/485).
10)- أنظر المصدر السابق (4/493).
11)- الوسق: ستون صاعا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *