من بين آثار أسماء الله الحكيم والحكم التي مرت معنا: عدم التحاكم إلا للحكم سبحانه، وللأسف الشديد أن هذا الأمر أعرض عنه الكثيرون في هذه الأزمان أفرادا وجماعات بل أمما ومجتمعات، واستبدلوا به تحاكما إلى قوانين وضعية ما أنزل الله بها من سلطان، فتحقق فيهم قول الباري سبحانه: “أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ” البقرة:61، والأمر ليس بالهين كما قد يتوهمه البعض، بل هو أمر جلل فليس التحاكم إلى شريعة ربّ البشر كالتحاكم إلى قوانين هي من صنع البشر..
وشعورا مني بأهمية الموضوع وإيمانا بقوله سبحانه: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” الرعد:11، أختم آثار أسماء الله الحكيم-الحكم، بعقد مقارنة بين التشريع الرباني والقانون الوضعي سيتبين من خلالها مدى البون الشاسع والفرق العظيم بين الحكمين..، ولنوقن أنه لن تعود عزتنا المفقودة إلى بالرجوع الصادق إلى ربنا، وإن من أعظم صور هذا الرجوع المبارك التحاكم إلى من بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، ورحم الله الإمام مالك حيث قال قولته المشهورة: “إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”..
بادئ ذي بدء؛ يجب أن نعتقد أنه لا وجه للمقارنة بين التشريع السماوي والقوانين الوضعية، إذ كيف يقارن تشريع أنزله رب العزة والجلال المتصف بصفات العظمة والكمال بقانون من وضع الإنسان الناقص بطبعه المفتقر إلى ربه في كل لحظة وآن؟ فشتان بين الثرى والثريا.. لكنه أمر ذكره العلماء في مصنفاتهم في الفقه الإسلامي أو التشريع الإسلامي لبيان عظمة التشريع السماوي وكماله وسموه ونقص القوانين الوضعية وعدم سلامتها من الخطأ والزلل.
وقبل أن نذكر بعض أهم الفروق لا بأس أن نعرف التشريع السماوي والقانون الوضعي.
• التشريع السماوي -أو الإلهي-: هو كل ما شرعه الله سبحانه لعباده بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم من العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك وجميع نظم الحياة التي تكفل سعادتهم في الدنيا والآخرة، فهو دين الله الذي شرعه لعباده.
• القانون الوضعي: هو مجموعة القواعد والأنظمة التي يضعها أهل الرأي في بلد أو أمة من الأمم لتنظيم شؤون حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية فتكون مرجعا لهم يتعاملون بمقتضاها.
ولا يجوز تسمية هذه القوانين بالتشريعية لأن التشريع هو ما شرعه الله تعالى والمشرع هو الله سبحانه.
1ومن أهم أوجه الفرق:
1- أن التشريع السماوي من عند الله جل وعلا المتصف بصفات الكمال ونعوت الجلال العليم بأحوال خلقه وما يصلحهم وما يفسدهم فهو سبحانه الذي خلقهم من عدم وهو الخبير بهم كما قال تعالى ذكره: “أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ” الملك:14، وبالتالي فشرعه سبحانه هو الكفيل بتنظيم حياتهم في جميع مجالاتها وتقنين معاملاتهم بجميع أشكالها على أحسن وجه وأكمله، وهو الكفيل بضمان سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وشرعه سبحانه هو سبيل الهدى العاصم من الغي والضلال والشقاوة والخسران كما قال تعالى: “فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى” طه:123-124، وبالجملة فالتشريع السماوي كامل بكمال الله بخلاف القانون الوضعي فهو ناقص بنقصان واضعه.
2- التشريع السماوي كله عدل لأن الذي أنزله هو العدل سبحانه الذي نزه نفسه عن الظلم بل حرمه على نفسه كما في الحديث القدسي: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما..”، وقال تعالى: “إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً” يونس:44، وقال سبحانه: “إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ” النساء:40، وقال جل وعلا: “وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ” آل عمران:108، وقال جل جلاله: “وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ” فصلت:46.
فتشريعه سبحانه مبني على العدل بل هو عين العدل كما قال جل شأنه: “وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً” الأنعام:115، قال الحافظ ابن كثير: صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام.
أما القانون الوضعي فتغلب عليه سمات الجور والظلم واتباع الهوى لأنه من وضع الإنسان الذي وصفه خالقه سبحانه بقوله: “إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً” الأحزاب:72.. الإنسان يتصف بصفات النقص من سهو وغفلة ونسيان؛ قد تشتبه عليه الأمور فيرى الحق باطلا والباطل حقا.
فمهما سمى فكره ونضج عقله فإن صفات النقص لازمة له.
يتبع إن شاء الله تعالى
—————–
1 – بعض الخطوط العريضة في هذه المقارنة استفدتها من كتاب تاريخ التشريع المقرر في جامعة المدينة العالمية التي منّ الله تعالى علي بالانخراط فيها لنيل الماجستير في علوم القرآن والتفسير، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.