مر معنا في الحلقة الماضية ذكر ترجمة الإمام قالون، وفي هذه الحلقة سنتطرق إلى ترجمة علم آخر من أعلام القراء المحققين وهو الإمام ورش عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو بن سليمان، وقيل: عثمان بن سعيد بن عدي ابن غزوان بن داوود بن سابق القبطي مولى آل الزبير بن العوام، ويقال: أصله من إفريقية يكنى أبا سعيد. وقيل أبا عمرو، وقيل: أبا القاسم شيخ القراء المحققين وإمام أهل الأداء المرتلين، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالديار المصرية، في زمانه، أرخ الأهوازي مولده في سنة عشر ومائة بمصر، وكان يعرف بالرواس لأنه كان في أول أمره رأسا ثم اشتغل بالقرآن والعربية فمهر فيهما، وكان أشقر أزرق العينين سمينا مربوعا ويلبس مع ذلك ثيابا مقدرة.
جود القرآن عدة ختمات على نافع في حدود سنة خمس وخمسين ومائة؛ وقال الذهبي: وما أعلم له رواية عن غيره؛ قيل إن نافعا لقبه بورش لشدة بياضه، والورش لبن مصنوع. وقال: بل لقبه بالورشان وهو طائر معروف، فكان يقول: اقرأ يا ورشان، وهات يا ورشان ثم خفف وقيل: ورش، وكان لا يكره ذلك ويعجبه، ويقول: أستاذي نافع سماني به.
قرأ عليه أحمد بن صالح الحافظ وداود بن أبي طيبة وأبو يعقوب الأزرق، ومن طريقه يقرأ المغاربة اليوم لورش ـ وعبد الصمد بن عبد الرحمن بن قاسم العتقي، ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله القرطبي؛ وسمع منه عبد الله بن وهب، وإسحاق بن حجاج وغير واحد.
وكان ثقة في القراءة وحجة، قال إسماعيل النحاس: قال لي يعقوب الأزرق: إن ورشا لما تعمق في النحو اتخذ لنفسه مقرأ سمي مقرأ ورش.
قال أبو عمرو الداني: بعدما ساق إلى محمد بن سلمة العثماني قال: قلت لأبي: أكان بينك وبين ورش مودة؟ قال نعم: حدثني ورش قال: خرجت من مصر لأقرأ على نافع، فلما وصلت إلى المدينة صرت إلى مسجد نافع، فإذا هو لا تطاق القراءة عليه من كثرتهم، وإنما يقرئ بلا شيء، فجلست خلف الحلقة وقلت لإنسان: من أكب الناس عند نافع؟ فقال لي: كبير الجعفريين، قلت: فكيف لي به؟ قال: أنا أجيء معك إلى منزله، فجئنا إلى منزله فخرج شيخ، فقلت: أنا من مصر جئت لأقرأ على نافع فلم أصل إليه، وقد أخبرت أنك من أصدق الناس له، وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه. فقال: نعم، وكرامة. وأخذ طيلسانه ومضى معنا إلى نافع، وكان لنافع كنيتين أبو رويم وأبو عبد الله. فبأيهما نودي أجاب. فقال له الجعفري: هذا وسيلته إليك جاء من مصر.
ليس معه تجارة ولا جاء لحج إنما جاء للقراءة خالصة. فقال: ترى ما ألقى من أنباء المهاجرين والأنصار. فقال صديقه: تحتال له. فقال لي نافع: أيمكنك أن تبيت في المسجد؟ قلت: نعم فبت في المسجد. فلما أن كان الفجر جاء نافع. فقال: ما فعل الغريب؟ فقلت: ها أنا رحمك الله. قال: أنت أولى بالقراءة. قال: وكنت مع ذلك حسن الصوت مدادا به.
فاستفتحت فملأ صموتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقرأت ثلاثين آية. فأشار بيده أن اسكت. فسكت. فقام إلي شاب من الحلقة فقال: يا معلم أعزك الله تعالى. نحن معك وهذا رجل غريب، وإنما رحل للقراءة عليك. وقد جعلت له عشرا واقتصر على عشرين آية، فقال: نعم وكرامة فقرأت عشرا. فقام فتى آخر فقال كقول صاحبه فقرأت عشرا وقعدت حتى لم يبق أحد ممن له قراءة. فقال لي: اقرأ فقرأت خمسين آية فمازلت أقرأ عليه خمسين في خمسين حتى ختمت عليه ختمات قبل أن أخرج من المدينة.
وروينا عن يونس بن عبد الأعلى قال: حدثنا ورش. وكان جيد القراءة، حسن الصوت، إذا قرأ يهمز ويمد ويشدد الإعراب لا يمله سامعه ثم سرد هذه الحكاية التي سبقت ومما جاء فيها: فلم أزل كذلك حتى ختمت عليه أربع ختم في شهر وخرجت من المدينة.
توفي ورش بمصر سنة سبع وتسعين ومائة.
بتصرف من (طبقات القراء للذهبي(1/177) وغاية النهاية لابن الجزري (1/446)).
ملحق: (نظرا لارتباط المغاربة برواية ورش من طريق الأزرق ارتأينا أن تلحق ترجمته بالإمام الأزرق حتى تعم الفائدة. ويتعرف الناس على هذا الإمام ولو بإجمال).
الإمام أبو يعقوب الأزرق يوسف بن عمرو بن يسار المدني ثم المصري المقرئ المعروف بالأزرق ثقة محقق ضابط: لزم ورشا مدة طويلة، وأخذ عنه القراءة عرضا وسماعا، وكان هو الذي خلف ورشا في الإقراء بالديار المصرية؛ وتفرد عن ورش بترقيق الراءات وتغليظ اللامات.
قال أبو الفضل الخزاعي: أدركت أهل مصر والمغرب على رواية أبي يعقوب عن ورش لا يعرفون غيرها، قرأ عليه إسماعيل بن عبد الله النحاس، وقواس بن سهل المعافري، ومحمد بن سعيد الأنماطي وجماعة آخرهم موتا أبو بكر بن سيف. وقد عرض أبو يعقوب الأزرق على سقلاب ومعلى بن دحية وغيرهما.
قال أبو عبد العزيز: سمعت أبا بكر بن سيف يقول: سمعت أبا يعقوب الأزرق يقول: إن ورشا لما تعمق في النحو اتخذ لنفسه مقرأ سمي مقرأ ورش، فلما جئت لأقرأ عليه، قلت له: يا أبا سعيد إني أحب أن تقرأني مقرأ نافع خالصا، وتدعني مما استحسنت لنفسك، قال فقلدته مقرأ نافع. وكنت نازلا مع ورش في الدار التي كنا نسكنها في مسجد عبد الله. وأما الحدر فكنت أقرأ عليه إذا رابطت بالإسكندرية.
قال الذهبي: لم أظفر بتاريخ موته، توفي في حدود الأربعين ومائتين.
بتصرف من (طبقات القراء للذهبي1/215)