شك بعض الناس في كون صاحب هذه المنظومة هو ابن عاصم، وذلك لأن كاتب هذه المنظومة، كتبها بوادي آشى وابن عاصم ليس له مقام هناك -على ما ذكر-، لاحتمال أن يكون صاحبها هو الناظم الآخر المدعى الذي ذكر أنه من أصحاب الشاطبي -أيضا- إلا أن هذا الشك تدحضه أمور ذكرنا أولها في الحلقة الماضية.
وثانيها: الشبه في الأسلوب اللغوي وطريقة بناء الكلام بين هاتين المنظومتين، وهذا باد في مواضع منها: وضع النكرة موضع المعرفة، وهذا سار هو عليه في كلتيهما. ومن ذلك قوله في هذه المنظومة (نيل المنى):
سواء القصد إلى أن يقعا مسبب وعدم القصد معا
وقوله فيها -أيضا-:
لذاك إن يبد بها بعض خلل ينظر إلى تسبب كيف حصل
وقوله فيها -كذلك-:
وضع الدليل القصد منه أن يرى فعـل مكلف عليه قد جرى
وقوله فيها -أيضا-:
بنسبة الخارج بالتزاحم ففيه يجريان بالتلازم
وقوله في (المرتقى):
كذا لشرطٍ مثلُه والمانع مثل الوضوء والمحيض المانع
وقوله فيه -أيضا-:
إذ صار من مجال الاجتهاد لناظر كالحج والجهاد
وغير ذلك من صنف هذا مما أورده في هاتين (المنظومتين) وفي (تحفة الحكام) أيضا، ومن تشوف إلى المزيد من ذلك فليرجع إليها بتأمل.
قد يقال بأن ذلك مما يجري على الألسنة عادة من التصرف في صيغ الألفاظ ووضع بعضها موضع بعض إذا أمن اللبس وبذلك يكون هذا عاديا في التعابير والكلام، فلا حجة فيه على أن هذا أسلوب يعرف به كلام الناظم.
نعم، قد يرد هذا على الأذهان إلا أن تكريره له واتخاذ ذلك طريقة له في الكلام يقضي بخلاف ذلك، وهو أن ذلك حجة على ما تقدم ادعاؤه، وإن كان ذلك لا يفيد إلا الظن، نعم قد يكون لاستعماله ما ذكر من النكرة موضع المعرفة وجوه تقتضي جواز استعماله له في تلك المواطن، إلا أن ذلك مرجوح، والراجح في ذلك هو المعرفة بمقتضى السياق والمعنى.
ومنها استعماله لفظ التعبدات مكان العبادات، ومن ذلك قوله في (نيل المنى):
إذ عدم التناف في العادات كاف على عكس التعبدات
وقوله فيه:
وهي تعبدات أو عادات ومع جنايات معاملات
وقوله فيه -أيضا-:
ومع ذا فالفرق شرعا آت بين التعبدات والعادات
وقوله في (المرتقى):
ومثله المشروط في تعدد شروطهكأكثر التعبد
وقوله فيه -أيضا-:
وهي تعبدات أو عادات ثم جنايات معامــــلات
وجملة التعبدات يمتنـع أن يستناب في الذي منها شرع
وَاستعمال التعبدات بمعنى العبادات غير معهود، فما أتى به الشاطبي قط، ولا رأيت غيره يستعمله، فكان هذا من مختارات الناظم التي انفرد بها. فليتأمل.
ومنه: استعماله للفظة تقسمت.
قال في (المرتقى):
ثم تقسمت لدى الإسناد إلى تواثر وللآحاد
وقوله في (نيل المنى):
ثم المشتقات لدنيوية تقسمت بعد وأخروية
وغير ذلك من صنف هذا الذي تقدم.
ثالثها: إن كاتب هذه المنظومة قد لا يكون مؤلفها، وهو الظاهر، وأنه لا يوجد دليل على أنه يوجد ناظم آخر بهذا الكتاب في تلك الفترة غير ابن عاصم وإذا تقرر هذا كله انمحى الشك الذي يراود بعض الناس في صحة كون هذه المنظومة (نيل المنى) لا بن عاصم.
هذا شأن ما ظهر لي في نظم هذا الكتاب في الأعصر الماضية وفي القرن الهجري الماضي نظمه الشيخ ماء العينين الصحراوي المغربي -رحمه الله تعالى-، ثم شرحه بشرح سماه (الموافق على المرافق)، وهو مطبوع متداول. وكان انتهاؤه منه -كما قال في آخره- في شهر جمادى الآخرة من عام ألف وثلاثمائة وأحد عشر من هجرة خير البرية عليه الصلاة والسلام.
وهذا النظم فيه أبيات غير موزونة، وقد تكون تصحفت من جهة النساخ كما كثر فيه الحشو.
وعلى الجملة هو نظم مفيد نسأل الله -تعالى- أن ينفع به.