من آثار الإيمان باسم الحليم الحلقة التاسعة عشرة ناصر عبد الغفور

2- لولا حلم الله بالعباد لهلك من عليها ولزالت السموات والأرض:
  يقول جل وعلا: “وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ” فاطر 45، فلولا حلم الله لأهلك من على الأرض حتى الدواب والحيوانات، فإن شؤم المعاصي يهلك الحرث والنسل.
يقول السعدي في تفسيره: “ثم ذكر تعالى كمال حلمه وشدة إمهاله وإنظاره أرباب الجرائم والذنوب، فقال: “وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا” من الذنوب، “مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ” أي لاستوعبت العقوبة حتى الحيوانات غير المكلفة، و”لَكِن” يمهلهم تعالى ولا يهملهم”.
وقال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً” فاطر 41، يقول ابن القيم: “ولولا أن رحمة الله سبقت غضبه ومغفرته سبقت عقوبته لتزلزلت الأرض بمن قابل بما لا يليق مقابلته به، ولولا حلمه ومغفرته لزالت السموات والأرض من معاصي العباد.. فتأمل ختم هذه الآية باسمين من أسمائه وهما الحليم والغفور كيف تجد تحت ذلك أنه لولا حلمه عن الجناة ومغفرته للعصاة لما استقرت السموات والأرض”[1].
3- لا يجب أن يفهم من اسم الحليم التمادي في الفجور والعصيان:
فإيماننا باسم الله الحليم لا يجب أن يثمر عدم تقدير الله تعالى بالتمادي في مخالفة أمره واقتحام حدوده.. فالحليم سبحانه إن كان يمهل فإنه لا يهمل. فالله تعالى يمهل العصاة بل والكفار ليتوبوا وينيبوا، لكن إن تمادوا واستمروا في طغيانهم لا يبقى إمهال، يقول تعالى: “وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً” الكهف 58.
يقول الإمام السعدي: “..وأنه لو آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب لعجل لهم العذاب ولكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة بل يمهل ولا يهمل والذنوب لا بد من وقوع آثارها وإن تأخرت عنها مدة طويلة، ولهذا قال: “بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً” أي لهم موعد يجازون فيه بأعمالهم، لا بد لهم منه.. وهذه سنته في الأولين والآخرين أن لا يعاجلهم بالعقاب بل يستدعيهم إلى التوبة والإنابة، فإن تابوا وأنابوا غفر لهم ورحمهم وأزال عنهم العقاب، وإلا فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم أنزل بهم بأسه..”[2].
4- حلم الله تعالى ليس كحلم المخلوق:
لا ريب أن من صفات الله تعالى ما يتصف به المخلوق، وهذا الإشتراك كما يقول العلماء إنما هو في أصل المعنى أو الصفة لا في تمام الصفة ولا في كيفيتها[3].
وبالنسبة لصفة الحلم فهناك عدة فروق بين حلم الله تعالى وحلم غيره:
– فحلم الله تعالى كامل لكماله بخلاف حلم المخلوق فهو ناقص لنقصانه.
– حلم المخلوق لم يكن في الصغر ثم كان في الكبر.
– حلم المخلوق قد يتغير بالمرض والغضب والأسباب الحادثة، ويفنى حلمه بفناءه، أما حلم الله فلم يزل ولا يزال.
– والمخلوق يحلم عن شيء ولا يحلم في غيره، ويحلم عمن لا يقدر والله تعالى حليم مع القدرة”[4].
– كما أن المخلوق قد يحلم ويؤخر العقوبة ليجعل خصمه يقع في ذنب أكبر فيوقع به أشد العقاب وهذا ليس بحلم وإنما حقد، وأما إمهال الله وتأخيره العقوبة فليس بهذا المعنى إطلاقا.
ومن الفروق أن:
5- حلم الله تعالى يكون عن علم وغنى وقدرة وحكمة:
حلم الله صفة كمال لا يكون عن افتقاره إلى الخلق أو جهل بأحوالهم أو عن عجز وعدم اقتدار عليهم، بل حلمه سبحانه حلم كامل مرتبط بغناه وعلمه وقدرته.
قال الخطابي: “لا يستحق الصافح مع العجز اسم الحليم إنما الحليم هو الصفوح مع القدرة المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة”[5].
وقال ابن حصار: “فإن قلت فكيف يتضمن الحلم الأناة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: “إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة”، فعددهما، فاعلم أن الأناة قد تكون مع عدم الحلم، ولا يصح الحلم أبدا إلا مع الأناة..، وكذلك لا يكون الحليم إلا حكيما واضعا للأمور مواضعها، عالما مقتدرا، فإن لم يكن قادرا كان حلمه ملتبسا بالعجز والوهن والضعف، وإن لم يكن عالما كان تركه الانتقام للجهل[6]، وإن لم يكن حكيما فربما كان حلمه من السفه..”[7]، والله جل وعلا يتنزه عن كل ذلك.
وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “..ولهذا جاء اسمه الحليم في القرآن في غير موضع ولسعته يقرنه سبحانه باسم العليم كقوله: “وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً“، “وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ“، وفي أثر أن حملة العرش أربعة اثنان يقولان: “سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك”، واثنان يقولان: “سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك”، فإن المخلوق يحلم عن جهل ويعفو عن عجز، فالرب تعالى يحلم مع كمال علمه ويعفو مع تمام قدرته وما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ومن عفو إلى اقتدار، ولهذا كان من دعاء الكرب وصفه سبحانه بالحلم مع العظمة وكونه حليما من لوازم ذاته سبحانه..”[8].

[1]– الجواب الكافي.
[2]– تيسير الرحمن، وقد مر معنا في تعريف معنى الحليم قول الزجاج: “وليس قول من قال أن الحليم لا يعاقب بصواب”.
[3]– وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى في وقت لاحق.
[4]– الحجة في المحجة للأصبهاني، نقلا من النهج الأسمى للشيخ محمد النجدي.
[5]– الأسماء والصفات للبيهقي.
[6]– قال الحافظ في الفتح: “والحلم يدل على العلم، إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم، وهما أصلا الأوصاف الإكرامية”.
[7]– ذكره عنه القرطبي في الأسنى.
[8]– عدة الصابرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *