المسألة الثالثة: أقسام المال الحرام
ينقسم المال الحرام عند العلماء إلى قسمين:
حرام لذاته، وحرام لغيره، ويعبر بعض أهل العلم عن هذين النوعين بالحرام لوصفه والحرام لكسبه1.
القسم الأول: الحرام لذاته
هو ما كان حراما في أصله ووصفه، أي ما حرمه الشرع لسبب قائم في عين المحرم، لا ينفك عنه بحال من الأحوال، لما اشتمل عليه من ضرر، أو خبث أو قذارة، كالخمر والخنزير والميتة والدم وسائر النجاسات والمستقذرات التي تسبب الأذى للإنسان2.
وقد ثبت تحريم هذه الأعيان في نصوص كثيرة، مثل قوله تعالى: “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ” (المائدة:3).
القسم الثاني: الحرام لغيره
ويعبر عنه أيضا (بالحرام لسببه)، وهو كل مال حرمه الشرع لسبب خارجي منفك عن ذات المال، فهو محرم بسبب الطارئ الذي أثر في وصفه، ولم يؤثر في أصله وماهيته، كالمال المكتسب عن طريق السرقة، أو الرشوة، أو القمار، أو ما أشبه ذلك. فأصل المال حلال لكنه أصبح حراما على من هو في يده، بسبب دخوله تحت يده بطريق غير مشروع وهو السرقة أو الرشوة ونحو ذلك3.
المسألة الرابعة: هل صحيح أن أكل الحلال في هذا الزمان صار متعذرا؟
من المقالات الشائعة اليوم عند كثير من الناس أن أكل الحلال صار متعذرا في هذا الزمان. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المسألة، فأجاب عنها في نحو عشرين صفحة، أبطل فيها هذه المقالة بالحجج النيرات والبراهين الساطعات، وأصَّل في ردِّها أصولا راسيات، ونحن نذكر من جوابه ذلك نتفا يتضح بها هذا المقام.
قال رحمه الله: الحمد لله، هذا القائل الذي قال: أكل الحلال متعذر، لا يمكن وجوده في هذا الزمان غالط مخطئ في قوله باتفاق أئمة الإسلام، فإن مثل هذه المقالة كان يقولها بعض أهل البدع، وبعض أهل الفقه الفاسد، وبعض أهل النسك الفاسد، فأنكر الأئمة ذلك، حتى الإمام أحمد في ورعه المشهور كان ينكر مثل هذه المقالة. وجاء رجل من النساك فذكر له شيئا من هذا، فقال: انظر إلى هذا الخبيث، يحرم أموال المسلمين.
ووقعت هذه الشبهة عند طائفة من مصنفي الفقهاء، فأفتوا بأن الإنسان لا يتناول إلا مقدار الضرورة، وطائفة لما رأت مثل هذا الحرج سدت باب الورع.. لكن الصواب المشروع خلاف ذلك، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: “يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً”، وقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ”، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطمعه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك”4، فقد بين صلى الله عليه وسلم أن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، من أكل الطيبات، كما أمرهم بالعمل الصالح، والعمل الصالح لا يمكن إلا بأكل وشرب ولباس وما يحتاج إليه العبد من مسكن ومركب وسلاح يقاتل به، وكراع يقاتل عليه، وكتب يتعلم منها، وأمثال ذلك مما لا يقوم ما أمر الله بِهِ إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإذا كان القيام بالواجبات فرضا على جميع العباد، وهي لا تتم إلا بهذه الأموال فكيف يقال: إنه قليل، بل هو كثير غالب، بل هو الغالب على أموال الناس، ولو كان الحرام هو الأغلب والدين لا يقوم في الجمهور5 إلا به، للزم أحد أمرين: إما ترك الواجبات من أكثر الخلق، وإما إباحة الحرام لأكثر الخلق، وكلاهما باطل.. إلى أن قال رحمه الله:
“فليتدبر العاقل، وليُعلم أنه من خرج عن القانون النبوي الشرعي المحمدي الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، احتاج إلى أن يضع قانونا آخر متناقضا يرده العقل والدين6. وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر مجموع الفتاوى (29/321).
2- الفروق للقرافي 3/96 – إحكام المال الحرام عباس الباز ص:40.
3- انظر المصدر السابق.
4- رواه مسلم.
5- أي في أكثر شرائعه.
6- انظر مجموع الفتاوى 29/311-331.