من دقائق الرياء

الرياء إحدى الأفات التي تفسد الأعمال, وتهلك العباد, فهو داء ينافي الإخلاص ويضاده.
قال الحافظ رحمه الله: “الرياء: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدونه عليها”.
والفرق بينه وبين السمعة -وإن كانت هذه الأخيرة من جنسه-, أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة والصدقة, والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر ونحو ذلك.
والرياء هو البحر الذي لا ساحل له, فمن أراد بعمله غير وجه الله, أو نوى شيئا إلى غير الله وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته, والإخلاص أن يخلص العبد لله في أقواله وأفعاله وإرادته ونيته.
روى ابن جرير رحمه الله وغيره عن شداد بن أوس قال: “كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر” صححه الحاكم.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: “واعلم أن المؤمن لا يريد بعمله إلا الله سبحانه وتعالى, وإنما يدخل عليه خفي الرياء.., فنجاته منه صعبة”
وقد ذكر العلماء رحمهم الله جملة من خفي الرياء ودقائقه لنَحذره, ومن ذلك:
أولها: ما ذكره أبو حامد الغزالي في إحيائه حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي: “وأخفى من ذلك أن يختفي (العامل بطاعته) بحيث لا يريد الاطلاع, ولا يسر بظهور طاعته, ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام, وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير, وأن يثنوا عليه, وأن يوسعوا له في المكان, فإن قصَّر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه, ووجد لذلك استعبادا في نفسه, كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه, ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه, ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله, ولم يكن خاليا عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل, وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر, ولا يسلم منه إلا الصديقون” الإحياء 3/305-306.
ثانيها: فهو أن يجعل الإخلاص لله وسيلة -لا غاية وقصدا- لأحد المطالب الدنيوية.
وقد نبه شيخ الإسلام رحمه الله على تلك الآفة الخفية فكان مما قال رحمه الله: حكي أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يوما تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه, قال: فأخلصت أربعين يوما فلم يتفجر شيء, فذكرت ذلك لبعض العارفين, فقال لي: إنك إنما أخلصت للحكمة, ولم تخلص لله تعالى.
ثم قال ابن تيمية: وذلك لأن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة, أو نيل المكاشفات والتأثيرات, أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه, أو غير ذلك من المطالب, وقد عرف أن يحصل ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه، فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضا, لأن من أراد شيئا لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته, والأول يراد لكونه وسيلة إليه، فإذا قصد أن يخلص لله ليصير عالما أو عارفا أو ذا حكمة أو صاحب مكاشفات وتصرفات ونحو ذلك, فهو هنا لم يرد الله, بل جعل الله وسيلة له إلى ذلك المطلوب الأدنى” الدرء 6/66-67.
ثالثها: ما أشار إليه ابن رجب رحمه الله بقوله: “وها هنا نكتة دقيقة, وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس, يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه, فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به, وهذا من دقائق أبواب الرياء, وقد نبه عليه السلف الصالح, قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها, وذلك عند الله سفه” شرح حديث ما ذئبان جائعان…46.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *