فوائد العلم بأسباب النزول (ح3) ناصر عبد الغفور

فوائد معرفة أسباب النزول (تتمة):
3- معرفة أن سبب النزول لا يخرج عن حكم الآية إذا ورد مخصص له:
فقد يكون اللفظ عاما ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته، فاللفظ العام يبقى شاملا لسبب النزول بعد التخصيص، وذلك لأن دخول صورة السبب في اللفظ العام قطعي، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد الذي هو ظني، وقد نقل الإمام السيوطي عن أبي بكر البقلاني الإجماع على ذلك.
4- فهم كلام الله تعالى على الوجه الصحيح وإزالة ما قد يقع من الإشكال أو الالتباس في فهم بعض الآيات:
ولعل هذه الفائدة من أهم فوائد العلم بأسباب النزول وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب” (مقدمة التفسير).
ونقل الإمام الزركشي في برهانه عن أبي الفتح القشيري قوله: “بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز..” (البرهان:1/40).
ويقول الإمام أبو الحسن الواحدي كما نقل عنه الإمام السيوطي في الإتقان: “لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها”.
وقال ابن دقيق العيد بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن (الإتقان:1/88).
ولا بأس من ذكر أمثلة تبين هذه الفائدة الجليلة من فوائد علم أساب النزول:
المثال الأول:
قوله تعالى: “وأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (البقرة:195).
قال أسلم أبو عمران: “غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل منا على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله! يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب الأنصاري: إنما تأولون هذه الآية هكذا أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو يبلي من نفسه! إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا بيننا خفيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هلم نقيم في أموالنا ونصلحها”، فأنزل الله تعالى: “وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد”، رواه أبو داود وابن أبي حاتم وصححه الحاكم والذهبي وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة تحت (رقم:13).
يقول العلامة الألباني رحمه الله تعالى: “واعلم أن هذا التكثر المفضي إلى الانصراف عن القيام بالواجبات التي منها: الجهاد في سبيل الله هو المراد بالتهلكة المذكورة في قوله تعالى: “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” وفي ذلك نزلت الآية خلافا لما يظن كثير من الناس” (السلسلة الصحيحة:1/11).
المثال الثاني:
روي في الصحيح أن مروان بن الحكم أشكل عليه معنى قوله تعالى: “لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (من سورة آل عمران:188).
وقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. وبقي في إشكاله هذا حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب، حيث قال: “وما لكم ولهذه إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء، فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس الآية (متفق عليه واللفظ للبخاري ح رقم:4568)، وبذلك زال الإشكال عنه وفهم مراد الله من كلامه هذا ووعيده.
المثال الثالث:
روى الإمام البخاري بسنده عن الزهري عن عروة قال سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها أرأيت قول الله تعالى: “إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما” فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: “بئس ما قلت يا ابن أختي إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: “وقد سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف” (صحيح البخاري: 1644).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *