التنبيه إلى مسائل استدلال الفقيه المقدمة الممهـِّدة

هذه مقدمة ممهدة للمسلك الثاني الخاص بدلالة اللفظ، أي: النظر في مراد المتكلم بعد معرفة اللفظ، و”معلوم أن العلم إنما يتم بصحة مقدماته والجواب عن معارضاته ليحصل وجود المقتضى وزوال المانع”.
ولا أعني المقدمة الفقهية التي يستدل بها الفقيه لتقرير الحكم، كقولهم: “من أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم، فإن كان يعرف أن كل مسكر محرم، ولكن لا يعرف هل هذا المسكر المعين يسكر أم لا؟
لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة، وهو أن يعلم أن هذا مسكر، فإذا قيل له: هذا حرام، فقال: ما الدليل عليه؟ فقال المستدل: الدليل على ذلك، أنه مسكر، تم المطلوب”.
وقد يحتاج إلى أكثر، وقد لا يلزم.
ولكن قواعد ممهدة لفهم المراد على طريقة السلف.
القاعدة الأولى:
قال ابن القيم: “معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وآخيته، التي يرجع إليها فلا يخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بل يعطيها حقها ويفهم المراد منه”.
هذه القاعدة تقرر لنا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: إخراج بعض المعاني عن حقيقة اللفظ.
من ذلك:
البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة، اسم لكل ما يبين الحق، قال تعالى: “قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ” الأنعام 57.
“وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى” طه 133.
وقال تعالى: “وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ” البينة 4.
فهذه الآيات وغيرها كثير تدل على مفهوم البينة وأنها تعمُّ وتشمل كل ما يبين الحق.
فخصَّها الفقهاء بالشاهدين، أو الشاهد واليمين، وحملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم “البينة على المدعي” عليه وهذا اصطلاح حادث يخالف مفهوم البينة الذي يشمل كل ما يبين الحق من شهود أو دلالة.
وفي هذا تضييع لحقوق الله تعالى وحقوق العباد.
يقول ابن القيم: “ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحا لا يمكن جحده ودفعه”.
والمقصود أن ظهور الحق لا يتوقف على ما خصه الفقهاء من الشاهدين أو الشاهد واليمين، بل المعتبر في ذلك كل ما يبين الحق ويجليه من الأمارات أو القرائن أو شواهد الحال، فقد تكون هذه المذكورات مساوية لمفهوم البينة عند الفقهاء في الظهور، وقد تكون أرجح منها في بيان الحق، والمقصود والمطلوب التمييز بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل وهذا لا يتوقف على الشهود بل يشمل أيضا الدلائل، ومنه القافة ورائحة الخمر والأوصاف الظاهرة بالنسبة للُّقطَة ونحو ذلك.
قال ابن القيم: “ولم تزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم وهذه القرينة أقوى من البينة (عند الفقهاء) والإقرار فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب ووجود المال معه نص صريح لا يتطرق إليه شبهة”.
فالصحيح المعتبر أن البينة تعم القول والفعل والوصف وبهذا جاء الشرع.
فالإخراج من غير موجب يلزم منه الحصر، وفي هذا إهدار وإبطال لمراد المتكلم.
نفعنا الله بما علمنا، وجعله حجة لنا لا علينا.

ويدخل في هذا الباب على سبيل التمثيل لا الحصر تنزيل معنى اللفظ النادر منزلة اللفظ الغالب المستعمل.
فلابد من اعتبار المعنى الأصلي للفظ، لأنه المراد شرعا ابتداء، فإن علم من أدلة الشرع جواز إطلاق اللفظ في غير ما وضع له، التزم في ذلك الموطن فقط، وبالتالي حمل اللفظ على غير المستعمل في موطن الاستعمال تحميله ما لا يحتمل، وهذا يحتاج إلى تتبع وملكة وتقوى، وهذه خصيصة الراسخين في العلم وحسبنا أن نقطف من أطايب ثمرهم.
وقد أفردت قاعدة لبيان أثر الامتثال ومحبة الله ورسوله في فهم المراد، فترقبوها.
وبالمثال يزول الإشكال ويتضح المقام.
فغالب استعمال لفظة الطهور إذا تعلق بها الحكم جاء في مقابل الحدث أو الخبث.
لذا قال ابن رشد في البداية (1/ 5): “اتفق المسلمون على أن الطهارة الشرعية طهارتان: طهارة من الحدث، وطهارة من الخبث”.
والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جدا، منها:
قال تعالى: “وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً”.
وعن عائشة قالت: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في طهوره إذا تطهر، وفي ترجله إذا ترجل، وفي انتعاله إذا انتعل”. رواه البخاري بنحوه.
وعن علي عن النبيr قال: “مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم” رواه الترمذي بسند صحيح.
وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه أن رسول الله r في غزوة تبوك أتى على بيت، فإذا قربة معلقة، فسأل الماء، فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، فقال: “دباغها طهورها”. رواه النسائي بسند صحيح
لكن ورد استعمالها في مقابل المرض مثلا:
مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : “لا بأس طهور إن شاء الله”.
ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : “ما ابتلى الله عبدا ببلاء وهو على طريقة يكرهها، إلا جعل الله ذلك البلاء له كفارة وطهورا”.
فإذا لم ينتهض دليل يصرف به أصل الاستعمال أو المفهوم بالاستعمال في الشرع من دلالة السياق ونحو ذلك، وجب التزامه وإعماله.
فهذه سبيل سابلة لفهم مراد الله ورسوله لمن التزم هدي السلف وحذر سبل أهل الزيغ والضلال من المتكلمة ونحوهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *