إن القدرة على البيان والإفهام لَمِن عظيم النعم الربانية التي أنعمها الله على بني الإنسان، قال تعالى: {الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان} (الرحمن: 1-4)، قال الحسن: «يعني: النطق»(1)، ويقول الباري جل وعلا مذكرا بهذه النعمة وبغيرها: {ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين} (البلد: 8ـ9)، يعني لسانا ينطق به.
وإن النعمة من المنعم سبحانه يجب أن تقابَل بالشكر من الإنسان، قال تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} (البقرة: 152).
ولعل شكر المنعم على نعمة اللسان قد يقتضي أحيانا الصمت والسكوت أو الإمساك عن الكلام مع القدرة عليه، وقد تقتضي أحيانا أخرى ترك الصمت إلى القول والكلام.
والمعنى: أن الصمت قد يكون مطلوبا ومحمودا في بعض الأحوال ، وقد يكون مكروها ومذموما في أحوال أخرى.
وإذا كان الأمر كذلك، تعيّن على كل مسلم أن يتعلم فقه الصمت؛ وفيما يلي بعض هذا الفقه:
أولا: في معنى «فقه الصمت»
المراد بالصمت هو كف اللسان وإمساكه عن الكلام.
وفقه الصمت، هو تحصيل العلم بالأحكام والضوابط الشرعية التي تحكُم الصمت وتضبطه، وتُفصّل حال كونه محمودا ومطلوبا شرعا، وحال كونه مذموما ومكروها ومنهيا عنه.
ثانيا: أقسام الصمت
نستفيد من جملة نصوص شرعية من قرآن وسنة، أن الصمت قسمان: صمت محمود مطلوب، وصمت مذموم مكروه.
أ- صمت محمود مطلوب
وهذا منه ما يكون واجبا، ومنه ما يكون مندوبا، وصوره كثيرة نذكر بعضها فيما يلي:
– الصمت عن خبيث الكلام وقبيحه وشرّه:
كالغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور واللعن -سواء لعن إنسان بعينه أو لعن دابة- والسب والقذف والفحش والبذاءة، وغير ذلك مما نهى عنه الله ورسوله.
فإن إطلاق اللسان بهذه الآفات يترتب عنه مفاسد كثيرة، منها أنه يتسبب بصفة مباشرة في زعزعة بنيان المجتمع المسلم وتوهين روابطه وأواصره، وإشعال نار العداوة والبغضاء بين أفراده، فهو عمل شيطاني خطير مخالف لمقصود الشارع الحكيم الذي يدعو إلى إقامة بنيان مجتمعي متماسك قوي يشد بعضه بعضا، قال تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} (الإسراء: 53).
وصاحب هذا اللسان المنطلق في الشر والإفساد، يناله جزاؤه من العذاب، كما في حديث معاذ رضي الله عنه، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كُف عليك هذا» أي لسانك، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال عليه الصلاة والسلام: «ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم»(2).
فالصمت عن هذه الأمور وما في حكمها وإمساك اللسان عن النطق بها، هو طريق النجاة والسلامة للفرد والمجتمع، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك»(3).
– الصمت عن اللغو وما لا خير فيه من الكلام:
إن الكلام إن كان لا يُرجى نفعه وخيره، فإن تركه أولى وأسلم، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم منبها: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت»(4).
والكلام فيما لا يفيد ولا ينفع، دليل على الجهل، كما قال أحد الحكماء: «ست خصال يُعرف بهن الجاهل: إحداها: الغضب في غير شيء، والثانية: الكلام في غير نفع، والثالثة: العطية في غير موضع، والرابعة: إفشاء السر عند كل أحد، والخامسة: الثقة بكل إنسان، والسادسة: أن لا يعرف صديقه من عدوه»(5).
ولا يليق بالمؤمن أن يتصف بالجهل، لذا تراه معرضا عن لغو الأقوال والأفعال، مكرما نفسه، قال تعالى في سياق ذكر صفات عباد الرحمان: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} (الفرقان: 72)، وقال: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص: 55).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ج. 7 – ص. 324.
(2)- سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، رقم: 2616.
(3)- سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، رقم: 2406.
(4)- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا على الخير..، رقم: 47 (74).
(5)- تنبيه الغافلين، لأبي الليث السمرقندي، ص. 151-152، مكتبة الصفا، ط. 1 (1422هـ-2002م).