شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها “نيل المنى في نظم الموافقات” للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

بنية المنظومة:
لقد عرف نظم الأندلسيين واشتهر في الجملة بفضيلة السمو عن نقيصة الاعتياص، وبالصياغة الرشيقة الأنيقة، فهو سائغ عذب شرابه، حلو ذواقه.
نعم هو كذلك، إلا أن ما كان منه في نظم العلوم قد يخفض قدره في هذا الشأن، لما يلزم به ذلك النظم من الإتيان بما يعد حشوا من الكلام، يلزم بذلك إتمام الأبيات وتحصيل القافية، وسلطان الوزن.
وفي هذه المنظومة الجميلة لابن عاصم لم يتخط هذا الأمر، فهي من النظم الأندلسي الحلو الجميل إلا أنه قد اضطر فيها إلى الإتيان بكلمات مستغنى عنها، وإنما جاء بها لإتمام أبيات عرض له فيها ذلك.
وقد نبهت على بعض منها في ثنايا هذا الشرح، وبعضها سعيت إلى أن أفسره تفسيرا يكون به لتلك الألفاظ معاني مرتبطة بمعاني الأبيات التي وردت فيها، ويحصل به لها معنى مفيدا، وإن كان من الظاهر عندي أنها زائدة، وإنما أفعل ذلك درءا للحشو على قدر المستطاع.
كما أنه قد اضطر فيها إلى التصرف في أفعال بالإتيان بها على صيغ غير واردة فيها -على ما رأيت- ومن ذلك لفظة (تقسمت) الوارد في قوله:
ثم المشتقات لدنيوية تقسمت بعد وأخروية
والمعروف هو (انقسم) من قولك قسم فلان الشيء فانقسم. ومنه -أيضا- لفظة (يتّذى) الواردة في قوله:
فليس للشارع قصد في بقا ما يتذى من وقعه أو يتقى
والمعروف إنما هو (يتأذى) بالضم، إذا بنيت يتأذى -بفتح الياء- للمفعول.
ومنه لفظة (التصريف) الواردة في قوله:
إذ قصده الإخراج بالتكليف عن داعيات النفس في التصريف
والمعروف في المعنى المقصود به لفظ التصريف هنا هو (التصرف).
وقد استعمل هذه اللفظة مكررا لها.
نعم قد تكون هذه الألفاظ ثابتة عنده لغة من حيث النقل. أو من جهة النحو، فتكون جارية على سنن الصواب. ولكنه أمر لسنا على بصيرة به، فلذلك نظمناها في سلك ما فيه نظر وبحث وعليه اعتراض.
وأما ما وعد به من تقريب (الموافقات) للقارئ وتبسيطه له فإنه -على ما يظهر من تصرفاته في هذا النظم- قد توسل إليه مما يراه وسيلة إلى ذلك، وهو الترتيب للكلام على وجه يتضح به المراد منه، وحذف الاعتراضات والإيرادات، والاكتفاء بالإشارة إلى ورود الأدلة في الموضع الذي كلامه فيه، بيد أن هذا لا يبلغ مرتبة البيان الذي ينحل به ما انعقد من كلام المصنف، ويفتح به ما انغلق منه، ويظهر به ما انطوى فيه من فوائد معرفية، عميقة في أحوال النفوس والقلوب.
وعلى هذا فنظمه -رحمه الله تعالى- نظم سائغ شرابه، حلو مذاقه، جميل نسجه، لا ينكر ذلك إلا معاند يكابر الحقائق، ويجحدها، وأما ما فيه من أمور قد تعد حشوا، وغامض الكلام فإنه لا يرجع عليها بأي ثلب مؤثر في قيمته البيانية والعلمية، لما تقدم من أن المنظومات العلمية لا تخلوا من مثل هذا.
المطابقة بين هذه المنظومة والأصل في المضمون (الموافقات)
يبدوا من تصرفات الناظم -رحمه الله تعالى- في صوغ كلامه وبنائه أنه كان يعقل المعنى الذي يريد نظمه مستوعبا له، مدركا لمقاصده، بعد أخذه له من كلام المصنف، ثم يصوغه على الطريقة التي يرى أنها أليق بذلك من جهة المعنى ومن جهة نظم الكلام، وأقرب إلى التبليغ المطلوب.
ولم يكن -رحمه الله تعالى- يخرج عن مضمون الأصل ومحتواه، بل كان ذا التزام بذلك في ترتيب المسائل إلا أنه خالف المصنف في طريقة بنائها إذا وردت في تضاعيف تفاصيلها التقسيمات (الأقسام) وأحكامها.
فالمصنف قد درج على ذكر القسمين أو أكثر، ثم ذكر حكم كل واحد منهما، أو منها على طريقة اللف والنشر المرتب.
وأما الناظم فإنه قد يذكر القسم وحكمه بالتتابع أحيانا، ثم ينتقل إلى القسم الذي بعده فيذكره وحكمه على التوالي، ثم ينتقل إلى الذي بعده -إن وجد- وعلى هذا السبيل مضيه في ذلك.
والظاهر أن ذلك هو الغالب عليه في تصرفاته في هذا الشأن. وكذلك -أحيانا- يسقط لفظة الفصل ويتصرف في شأن التقديم والتأخير في الكلام، وقع ذلك منه في مواطن، ومن ذلك:
المسألة الأولى من النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.
والمسألة الأولى من النوع الأول في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء.
وغير ذلك مما سلك فيه هذا المسلك، وهو سبيل اعتاد الذهاب فيه فكان هو الأصل عنده في هذا الشأن، وفي شأن التمثيل، فربما أتى بمثال غير الذي في الأصل كقوله:
ألا ترى لو أن قصرا ابتني أمكن وصفه لكل الألسن
وقوله:
فإنه يعد في الأوصاف كالترك للصوم في الإعتكاف
وكان ينتحي الإيجاز والاختصار والاقتصار على ذكر لب الموضوع وما هو مهم فيه، وربما ترك كلاما طويلا للمصنف استغناء عنه بما ذكره من الفائدة والحكم، وهو ما يرى أنه موضع الحاجة، ومتعلق الغرض، فهو وإن كرر قواعدا أو فوائدا، فإن ذلك لم يكن منه إلا لأن في تكريره فائدة الترسيخ لها في الأذهان، ثم إن ذلك قد يكون لكون الكلام يتوقف بيانه على ذكرها، أو يكون ذكره لها تبعا للمصنف، أو لأهميتها وجلالة قدرها.
نعم يتصرف الناظم بزيادة ما به تمام الأبيات إذا احتاج إلى ذلك؛ كقوله:
وقد يقال إن الأخذ بالرخص أولى من أوجه لذاك تقتنص
وقوله:
وكم لدى الكتاب من أدلة في معنى الابتلاء مستقلة
وقوله :
فإن يكن يحصل حق العبد مع ذاك ولو بعد الوقوع إن وقع
وما أشبه ذلك مما اضطر فيه إلى الزيادة في الكلام، بمقتضى القوافي أو الوزن أو للإيضاح المستغنى عنه وهذا ليس أمرا يشين فإن هذا معهود ومجرى عليه في المنظومات العلمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *