فوائد معرفة أسباب النزول:
يعتبر العلم بأسباب النزول من أصول التفسير المهمة وركائزه المتينة التي لا بد لمن رام التصدر لتفسير كلام الله تعالى أن يكون ملما بها، يقول الإمام الزركشي رحمه الله تعالى: “التفسير علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ” (البرهان في علوم القرآن:1/13).
فعلم أسباب النزول من الأهمية بمكان وكيف لا يكون كذلك وهو بحث تاريخي يبين الأحوال والملابسات التي نزلت فيها كثير من آيات القرآن الكريم، لذا كان لهذا العلم الفوائد العظيمة والثمرات الجليلة، خلافا لمن يزعم ألا فائدة تحته، وفي هذا المعنى يقول العلامة الزركشي: “وأخطأ من زعم أنه لا طائل تحته لجريانه مجرى التاريخ وليس كذلك بل له فوائد” (البرهان:1/22).
فمن فوائد العلم بأسباب النزول:
1- معرفة الحكمة من التشريع أو بعبارة أخرى معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم:
فشرع الله تعالى للأحكام المختلفة مبني على الحكمة، فهو الحكيم سبحانه في أقواله وأفعاله خلافا لمن ينفي صفة الحكمة عنه سبحانه ويقول أنه يفعل لمجرد المشيئة كبعض الأشاعرة، تعالى الله علوا كبيرا عما يقولون، بل إنه سبحانه لا يفعل إلا لحكم ولا يشرع إلا لحكم، كما قال تعالى: “حكمة بالغة” (سورة القمر).
وعلم أسباب النزول يعين على معرفة الحكمة أو الحكم مما شرعه الله تعالى في كتابه، وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن.
“أما المؤمن فيزداد إيمانا على إيمانه ويحرص كل الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه لما يتجلى له من المصالح والمزايا التي نيطت بهذه الأحكام ومن أجلها جاء هذا التنزيل، وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم الباهرة إلى الإيمان إن كان منصفا حين يعلم أن هذا التشريع الإسلامي قام على رعاية مصالح الإنسان لا على الاستبداد والتحكم والطغيان خصوصا إذا لاحظ سير ذلك التشريع وتدرجه في موضوع واحد..” (مناهل العرفان:82).
ومن الحكم التي يمكن استفادتها:
– التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم.
– بيان رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين
– رعاية المصالح العامة للمجتمع الإسلامي.
– التدرج في التشريع.
– تربية الله تعالى لهذه الأمة.
2- تخصيص الحكم بصورة السبب لمن يقول أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ:
فمثلا قول الله تعالى: “والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله إن كان من الكاذبين..” (النور:6)، هذه الآية نزلت في هلال بن أمية رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “البينة أو حدّ في ظهرك”، فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “البينة وإلا حد في ظهرك”، فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحدّ، فنزل جبريل وأنزل عليه {والذين يرمون أزواجهم فقرأ حتى بلغ إن كان من الصادقين}” (صحيح البخاري: كتاب التفسير- باب تفسير سورة النور- ح رقم:4470).
فعند من يقول أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ يجعل حكم الملاعنة الذي نزل في هذه الآية خاصا بهلال بن أمية فقط، أما غيره فتعدية الحكم إليه يكون بالقياس أو بحديث “حكمي على الواحد حكمي على الجماعة”.
ومن الأمثلة كذلك: قوله تعالى في صدر سورة المجادلة: “لقد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما…”، فقد ذكر المفسرون أنها نزلت في خولة بنت حكيم جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها أوس بن الصامت الذي ظاهرها، فالحكم الذي ذكره الله تعالى في صدر هذه السورة خاص بخولة وأوس بن الصامت، وأما غيرهما فيعرف حكمه بالقياس أو بالحديث.
وبدهي أنه لا يمكن معرفة المقصود بهذا الحكم ولا القياس عليه إلا إذا علم السبب.
أما قول العلامة الزرقاني في مناهله: “وبدون معرفة السبب تصير الآية معطلة خالية من الفائدة” (1/113)، ففيه نظر بل لا يجب أن يقال لأن آيات القرآن هي من كلام الله سواء علم السبب أم لم يعلم، وكلامه سبحانه لا يتصف بالتعطيل بل كله فوائد وحكم، ويكفي أننا نتعبد بتلاوته في الصلاة وغيرها ونؤجر عليه بكل حرف عشر حسنات وغير ذلك من الحكم.
تنبيه: بالنسبة لحديث: “حكمي على الواحد حكمي على الجماعة”، فقد ذكره العلامة الزرقاني في مناهله ويكثر من ذكره الأصوليون في كتبهم، وقد بحثت عنه فوجدته حديثا لا يصح.
جاء في المقاصد الحسنة للإمام شمس الدين السخاوي رحمه الله تعالى: “ليس له أصل كما قاله العراقي في تخريجه، وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه” (1/312).