حقيقة الشرك.. وخطره 4/4 ناصر عبد الغفور

في الحلقات الماضية كانت لنا تسع وقفات مع بعض حقائق الشرك وفي هذه الحلقة نقف وقفة أخيرة مع بعض الأمثال التي ضربها الله تعالى له في كتابه، تبين مدى شناعته وقبحه لمن ألقى السمع وهو شهيد.

10- من أمثال الشرك في القرآن
من حكمة الله سبحانه وتعالى أنه كلما عظمت حاجة العباد إلى شيء كلما جعل وسائل تحصيله وأسباب نيله كثيرة، ولما كانت حاجة الناس إلى التوحيد أعظم الحاجات وعليه تتوقف سعادتهم في الدنيا وبعد الممات، كانت الدلائل عليه عديدة، وقد ذكر الله جل وعلا في كتابه الحكيم كثيرا من هذه الدلائل والبراهين، حتى إن بعض العلماء قالوا أن القرآن كله كتاب توحيد -من ألفه إلى يائه-:
وبيان ذلك أن القرآن إما أن يذكر أنواع التوحيد وأفراده، وإما أن يذكر الأمر به والنهي عن نقيضه، وإما أن يذكر قصص الأنبياء والرسل مع أقوامهم ودعوتهم إلى توحيده سبحانه، وإما أن يذكر عاقبة الموحدين وما كان لهم من النصر والتمكين ومآل المشركين وما تعرضوا له من الخزي المبين، وإما أن يذكر أوصاف دار الموحدين وما فيها من أنواع النعيم المقيم، ونعوت دار المشركين وما أعدَّ الله لهم فيها من أنواع العذاب المهين.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية من التوحيد.. مثل القرآن، فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانا” .
ومن طرق القرآن في الدعوة إلى التوحيد ضرب الأمثال التي تبين بيانا ليس بعده بيان بشاعة الشرك -نقيض التوحيد وضده-..
وسنكتفي إن شاء الله تعالى بذكر أربعة أمثال:
المثل الأول: قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }.. (العنكبوت:41).
في هذا المثل يبين الله تعالى مدى ضعف كل من عُبد من دونه وأنه عاجز غاية العجز، وأنه لا يزيد عابديه إلا وهنا على وهن.
فمثل هؤلاء المشركين كمثل العنكبوت -وهي من أضعف الحشرات- اتخذت بيتا يقيها القر والحر لكنها لم تزدد باتخاذه إلا ضعفا، وهكذا حال كل من اتخذ القبور والأضرحة آلهة من دون الله، فإنه -والواقع أكبر شاهد- لا يزداد بها إلا وهنا وضعفا، فتجد الواحد من هؤلاء أضعف الناس عزيمة وأوهنهم قلبا وبدنا وحالا.
وهذا المثل كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده” .
ويقول العلامة السعدي رحمه الله: “..فلو كانوا يعلمون -أي المشركون- حقيقة علم حالهم وحال من اتخذوهم ، لم يتخذوهم ولتبرؤوا منهم ولتولوا الرب القادر الرحيم الذي إذا تولاه عبده وتوكل عليه كفاه مؤونة دينه ودنياه وازداد قوة إلى قوته في قلبه وبدنه وحاله وأعماله”.

المثل الثاني: قوله جل في علاه: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } (الرعد:14).
هذا المثل يبين مدى استحالة انتفاع كل من أشرك بالله بمعبوده.
فالله جل وعلا شبه في هذا المثل العظيم استجابة الآلهة الباطلة من قبور وأضرحة وأشجار..لعابديها بالذي بسط كفيه إلى الماء لينال شربة ماء وهو لا يستطيع نيله -وما هو ببالغه- فيمد يده وهو في غاية العطش لكن وصوله إلى الماء محال، وكما أن هذا محال فالمشبه محال، والتعليق على المحال من أبلغ ما يكون في نفي الشيء كما يقول العلماء .

المثل الثالث: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:73-74).
هذا مثل ضربه الله لبيان قبح عبادة الأوثان من قبور وأضرحة وقباب وزوايا وأشجار وأحجار..، وبيان نقصان عقول عابديها، فأقل درجة المعبود أن يجلب لعابده ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره وهذا لا يتحقق في من عُبد من دونه سبحانه، ففي هذه الآية يخبر العلي الكبير عن عجز كل المعبودات من دونه عن خلق ذباب ولو اجتمعوا عليه، وعجزهم عن خلق ما هو فوقه من باب أولى، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستطعون إرجاعه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على غاية ضعف هؤلاء الآلهة الباطلة، لذلك قال تعالى: {ضعف الطالب} أي الأوثان {والمطلوب} أي الذباب ، وأضعف منهما من تعلق بالأضرحة والقبور، ونزل أصحابها منزلة العزيز الغفور، فإليهم يصرف الدعاء، وبهم يستغاث ويتوسل، ولهم تقدم الذبائح والنذور.. ومن أنكر فِعلهم دعوا عليه بالويل والثبور..
وهؤلاء ما قدروا الله حق قدره، وما عظموه حق تعظيمه، حيث سووا هؤلاء الأموات -الذين لا يستطعون لأنفسهم بله لغيرهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا- بمالك الملك الإله الحق تعالى عما يشركون.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشياطين قد تتلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة..” .

المثل الرابع: قوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج:31).
في هذه الآية شبه الله جل وعلا المشرك الذي عبد معه غيره بمن خر من السماء فإما أن تمزقه الطيور في الهواء تمزيقا أو تهوي به الريح إلى أبعد مكان، وفي كلا الحالتين فالهلاك حاصل لا يرجى معه نجاة.
فهذا المثل البديع بين فيه العليم السميع مدى شناعة الشرك وحال أهله الشنيع.
وإذا اعتُبر التشبيه المضروب في الآية من التشبيه المفرق ، فإن الله جل وعلا -كما قال ابن القيم وبعض أهل التفسير- شبه التوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء، وشبه تاركه بالساقط منها إلى أسفل سافلين، والطير الذي يخطف أعضاءه ويمزقه بالشياطين التي يرسلها الله تعالى عليه فتؤزه أزا، فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه إلى الهلاك -عياذا بالله-.
فهل بعد هذا كله يليق بمسلم يشهد شهادة التوحيد ويسجد للعلي الحميد ويؤمن بيوم لا مفر منه ولا محيد، قد أكثر الله فيه من الوعيد لمن جعل له الشريك والنديد …- أن يصرف شيئا من العبادات لغير الله أو يتعلق بغيره أو يحج لغير بيته أو يطوف بغير كعبته..
و لا يجب أن يُعتقد أن العبادة منحصرة في الصلاة والصيام.. بل العبادة أعم من ذلك..
يقول العلامة المغربي محمد بن تقي الدين الهلالي رحمه الله: “..العبادة غير منحصرة في السجود والركوع والدعاء والاستغاثة والاستعاذة، بل كل قول أو عمل عظم به غير الله تعالى رجاء النفع.. هو عبادة لذلك المكان.. فتقبيل التوابيت والقبور والطواف بها والتمسح بها وأخذ ترابها للشفاء كل ذلك عبادة وشرك بالله تعالى” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *