* الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: «أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» متفق عليه.
* تأملات في الدُّرّة:
يخبرنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن بنود البيعة التي بايعهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
– السمع والطاعة لله ورسوله، سواء وافق ذلك من النفس نشاطا أو كسلا، وسواءً وافق الأمر بالنفقة عسرًا أو يسرًا، ومن جملة ذلك طاعة ولاة الأمر من المسلمين في غير معصية.
– السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين في المعروف وإن حصل منهم استئثار واختصاص بحظ دنيوي، قال ابن حجر في قوله “وأثرة علينا”: “والمراد أن طواعيتهم لمن يتولى عليهم لا تتوقف على إيصالهم حقوقهم، بل عليهم الطاعة ولو منعهم حقهم” فتح الباري 13/8.
– عدم منازعة ولاة الأمر في ولايتهم ما لم يظهر منهم الكفر البواح الظاهر الذي قام عليه برهان، أي: “نصّ آية، أو خبرٌ صحيحٌ لا يحتمل التأويل” فتح الباري 13/8.
– القيام بالحق والقول به في كل مكان من غير خوف لوم لائم.
* وَمَضَاتُ الدُّرّة:
1. وجوب السمع والطاعة لله ورسوله، ومن ذلك طاعة ولاة الأمر في المعروف لما في ذلك من العاقبة الحميدة، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ” النساء 59.
2. تحريم منازعة ولاة الأمر في الحكم ما لم يصدر عنهم الكفر البيّن الذي لا شك فيه، واشترط العلماء أيضا القدرة على عزله من غير مفسدة راجحة، وذلك لما يترتب على منازعة الحكام من سفك للدماء، وانتهاك للأعراض، وضياع للأموال. وقد روي الحديث بلفظ: “إلا أن يكون معصية لله بواحا” صحيح ابن حبان:4566، وجمع الحافظ ابن حجر بين رواية الكفر البواح ورواية المعصية، فحمل المنازعة المنهي عنها في رواية الكفر على المنازعة في الولاية، يعني الخروج، وحمل المنازعة في رواية المعصية على الإنكار عليه، فقال رحمه الله: “…والذي يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية، إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية؛ نازعه في المعصية، بأن ينكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرا. والله أعلم” فتح الباري 13/8.
وقد فسر بعض العلماء الكفر في هذه الرواية بالمعصية، وفسروا المنازعة بالاعتراض عليهم بالإنكار، قال النووي رحمه الله: “ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم، إلا أن تروا منهم منكرا محققا، تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك؛ فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق؛ وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل؛ وحكي عن المعتزلة؛ أيضا فغلط من قائله مخالف للإجماع. قال العلماء وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه”. شرح النووي 12/229.
والحاصل أنّ النووي وإن فسر الكفر في هذا الحديث بالمعصية فإنه قد فسر المنازعة بالإنكار عليه وليس بالخروج عليه، وبين الإنكار والخروج بون شاسع، وقد نسب بعض أهل الأهواء المعاصرين إلى النووي تفسير الكفر هنا بالمعصية من غير أن يسوق بقية كلامه، فأوهم أن النووي يقول بجواز الخروج على الحاكم إذا وقع في معصية ظاهرة، مع أن النووي قد نقل إجماع أهل السنة على عدم جواز الخروج على الحاكم الظالم، وممن حكى إجماعهم أيضا في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال رحمه الله: “… ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين” (يعني قبل انعقاد إجماع أهل السنة) [منهاج السنة 4/529-530]؛ ولهذا بدَّع الإمامُ أحمد من خرج على إجماع أهل السنة بعد انعقاده فقال : “ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق” [أصول السنة ص 46].
3. وجوب القيام بالحق والقول به على الوجه المأمور به شرعا من الإسرار والتلطف مع ولاة الأمر وغيرهم، وهذا لا يعني منازعتهم في الأمر، فإنه لا تعارض بين وجوب الصبر على جور الأئمة بترك الخروج عليهم، وبين وجوب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالطرق الشرعية المرعية، وقد أخطأ من فهم من نصوص الصبر على الأئمة السكوت عن الحق، كما أخطأ من فهم من نصوص الأمر بالمعروف الخروج على الحاكم، وأسعد الناس بالحق أهل السنة؛ إذ جمعوا بين النصوص، ولم يضربوا بعضها ببعض.
4. والأصل في النصيحة لولاة الأمر وغيرهم أمران: الرفق والإسرار، لأن ذلك أدعى لانتفاعه بالنصح، والأصل في ذلك قوله تعالى لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام حين أرسلهما إلى فرعون: “فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى”، فقد أمرهما الله بإتيانه، وليس بالكلام عليه في الخطب والمواعظ، وأمر بالترفق معه وليس بإغلاظ القول له، وبيَّن العلة فقال: “لعله يتذكر أو يخشى”، وهذا يتفق مع قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (صحيح الجامع 1100)، وقوله: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» (صحيح الجامع 3675)، ولهذا لما قيل لأسامة بن زيد رضي الله عنهما ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ قال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، ما دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه” متفق عليه، قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: “يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان رضي الله عنه، وفيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم، ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقول الناس فيهم لينكفوا عنه، وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار؛ فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق” (شرح مسلم 18/160). ومما ينبه عليه أمور دل عليها كلام الإمام النووي السابق:
– أنه لا يصار إلى إعلان النصيحة إلا عند عدم إمكان الإسرار بها، وهذا يعني أن على الناصح قبل الإعلان أن يبذل الوسع من أجل الدخول على الحاكم أو إيصال النصيحة إليه بالواسطة، أو بالمكاتبة، أو بطلب ذلك ممن يدخل عليه من العلماء.
– أن النصيحة للحاكم فرض كفاية فإذا أمكن أن يقوم بها من يتمكن من الدخول عليه لم يجز لغيره الإعلان بها لحصول المقصود.
– أن المقصود هو بلوغ الكلام للحاكم وليس نشره بين الناس، وإنما جاز إطلاع الناس عليه تبعًا لا استقلالا.
– أنه إذا جاز العدول عن شرط الإسرار لتعذره، فإنه لا يجوز العدول عن شرط الترفق لتيسره.
والله أعلم.