من آثار الإيمان باسم الله “الحليم” الحلقة الثامنة عشرة ناصر عبد الغفور

1- سعة حلم الله تعالى:
حلم الله جل وعلا وسع العاصي مهما تمادى في عصيانه والفاجر مهما عظم فجوره بل وسع الكافر مهما اشتد طغيانه وكفره.. الله حليم بكل هؤلاء: يمهلهم ولا يقابل إعراضهم بإعراضه بل يرزقهم ويعافيهم ويفتح لهم أبواب التوبة ليل نهار لعلهم يتوبوا وينيبوا.
يقول السعدي رحمه الله: “الحليم الذي له الحلم الكامل والذي وسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان، ومنع عقوبته أن تحل بأهل الظلم عاجلا، فهو يمهلهم ليتوبوا..”.
يقول الأقليشي: “..أما تأخير العقوبة في الدنيا عن الكفرة والفجرة من أهل العصيان فمشاهد بالعيان، لأننا نراهم يكفرون ويعصون، وهم معافون وفي نعم الله يتقلبون” .
فالمتأمل في أحوال الناس وما يحدث بينهم من البغي والظلم بشتى أنواعه وما يقع من جرائم عظام في حق الضعفاء.. أعراض تنتهك، أراضي و دول تستباح..، وما نراه من المحادة لله وشرعه ومن الاستهزاء به وبرسوله، بل وسبّه وشتمه رغم عظمته وكبريائه..، الناظر لذلك كله يشعر بعظمة حلم الله تعالى بخلقه.
كذلك المتدبر لكتاب الله وما قصه من قصص الطغاة والجبابرة يقف على نماذج يشعر أمامها بالدهشة والعجب: كيف يقابَل الله العلي الكبير العظيم القهار، العزيز الجبار.. بكل صور التمرد والطغيان والكفر والعصيان، ثم يقابِل ذلك كله بحلمه وعفوه وإمهاله وستره؟ -لكنه الله-.

وهذه نماذج تبين عظم حلمه جل وعلا وسعته:
* قال تعالى: “لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (المائدة 73)، “وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه، مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة..” كما قال الحافظ بن كثير.
* قال تعالى: “وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ..”، وقال جل وعلا: “لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء..” (آل عمران 181): فاليهود يصفون ربهم بالفقر والبخل ورغم ذلك فهو سبحانه يبقي أفضاله عليهم ويغنيهم من فضله.
من صور حلم الله:
* قصة أصحاب الأخدود الذين حفروا خندقا وأججوه نارا فألقوا فيه كل من آمن بالله، قال تعالى: “قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ{4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ{5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ{6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ{7} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ..”، ثم رغم هذه الجريمة النكراء يقول الحليم سبحانه: “إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ”، يكفرون بالله ويفتنون عباده ويعذبونهم بهذا العذاب الذي تتفطر منه القلوب ثم يعرض عليهم التوبة، فما أعظم حلمه سبحانه. قال الحسن البصري رحمه الله: “انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة”.
* ومن النماذج، حلم الله تعالى بفرعون اللعين: يتمرد ويطغى ويسعى في الأرض فسادا، كما قال جل وعلا: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ” (القصص 4) ..يدعي الربوبة والألوهية، ويقابل الله تعالى ذلك كله بحلم عظيم، حيث يرسل إليه رسولين كريمين قائلا لهما: “فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى”، فيأمرهما أن يكلماه كلاما لينا، أي “سهلا لطيفا برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف ولا غلظة في المقال أو فظاظة في الأفعال” .
* ومما يبين عظم حلم الله تعالى، قوله جل في علاه في الحديث القدسي: “يشتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله: إن لي ولدا، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني” ، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى من الله، إنهم ليدعون له ولدا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم”.
قال ابن القيم: “وهو مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب ويعافيه، ويدفع عنه ويدعوه إلى جنته ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدل سيئاته حسنات، ويلطف به في جميع أحواله..” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *