“التدبر هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة” ومعنى تدبر القرآن: هو التفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمه وإدارك معانيه وحكمه والمراد منه.
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج: “وأما التأمل في القرآن: فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (ص:29)، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24)، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} (المؤمنون: 68)، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف:3).
وقال رحمه الله تعالى: “..لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مرَّ بآية وهو محتاجا إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى الى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة:118)، فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب ولهذا قال ابن مسعود: “لاتهذوا القرآن هذ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، لا يكن هم أحدكم آخر السورة”، وروى أبو أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ” (مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/187).
ومن أهم النتائج التي يحصلها المتدبر لكتاب الله تعالى الخشية والخوف والقرب من الله وزيادة الإيمان، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: فقرأت سورة النساء فلما بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً} (النساء:41) قال: حسبك الآن، فالتفت فإذا عيناه تذرفان. (البخاري).
قال إبراهيم التيمي: من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما، لأن الله نعت العلماء.. ثم تلا قول الله تعالى: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} (الإسراء:107).
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: “كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم”.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع منه الفكر على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة، والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة، وأهل الشقاوة وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه وافتراقهم فيما يفترقون فيه..” اهـ.
فحري بكل تال لكتاب الله تعالى أن يقف عند آياته ويتدبرها ويتفكر فيها، مستعينا في ذلك ببعض كتب التفسير الميسرة أو الموسعة، حسب الجهد والطاقة، عسى يفتح الله عليه بإدراك معانيها والعمل بمقتضاها.