فوائد العلم بأسباب النزول (ح1) ناصر عبد الغفور

يعتبر علم أسباب النزول من علوم القرآن المهمة التي لا يمكن الاستغناء عنها في تفسير كلام الله جل في علاه، وذلك لأن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مقدمة التفسير.
وهو من الشروط المفروضة والعلوم المحفوظة لمن رام تفسير القرآن كما بيّنه غير واحد من الأعلام؛ كالإمام السيوطي في الإتقان والإمام الزركشي في البرهان عليهم رحمة العلي المنان.
ولأهمية هذا العلم فقد كان محط اهتمام وتأليف منذ القدم، يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: (أفرده بالتصنيف جماعة أقدمهم علي بن المديني شيخ البخاري، ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز، وقد اختصره الجعبري، فحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئا، وألف شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر كتابا مات عنه مسودة، فلم نقف عليه كاملا، وقد ألفت فيه كتابا موجزا محررا لم يؤلف مثله في هذا النوع سميته: “لباب النقول في أسباب النزول”) (الإتقان في علوم القرآن:1/87).
ولعل كتاب ابن حجر الذي أشار إليه الإمام السيوطي هو: “العجاب في بيان الأسباب”، والعلم عند الله.
ومن الكتب التي ألفت في هذا الموضوع: “الاستيعاب في بيان الأسباب والصحيح المسند من أسباب النزول” للعلامة اليمني مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله تعالى، و”إرشاد الرحمن لأسباب النزول”.
وقد عده الإمام الزركشي النوع الأول من علوم القرآن في كتابه البرهان، فقال: “النوع الأول: معرفة أسباب النزول”، وذكره الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في النوع التاسع.
تعريف أسباب النزول:
ينقسم القرآن من حيث النزول إلى قسمين: ابتدائي وسببي:
فالابتدائي: هو ما نزل ابتداء دون سبب من واقعة أو حدث، وهذا هو الغالب فمعظم القرآن نزل ابتداء.
لكن هذا لا ينفي أن يكون هذا القسم نزل لأسباب يمكن التعبير عنها بأنها أسئلة بلسان الحال، وهي حاجة الناس إلى تقرير أصول الاعتقاد الصحيح الذي به فلاحهم وسعادتهم في الدارين، وكذا ترسيخ أصول الأخلاق والآداب السامية التي لا يتصور نهضة أمة أو رقيها بدون التخلق أو التأدب بها، وكذا بيان أصول المعاملات التي تحفظ حقوق الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم وتنظم علاقاتهم فيما بينهم أفرادا وجماعات وشعوبا…
السببي: هو ما نزل لسبب: بيانا لحكم واقعة حدثت أو جوابا لسؤال أو أسئلة طرحت أو رد على شبهة ألقيت…
وقد نقل الإمام السيوطي في الاتقان عن الجعبري قوله: “نزول القرآن على قسمين: قسم نزل ابتداء، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال” (الإتقان في علوم القرآن:1/59).
معنى أسباب النزول:
أسباب النزول يقصد بها الوقائع والأحداث التي وقعت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن الكريم للتحدث عنها أو لبيان أحكامها، سواء كان هذا البيان أثناء وقوع الحادثة أو بعده أو قبله، وكذا ما نزل جوابا على سؤال، فالسبب يكون إما:
– حادثة وقعت تحتاج إلى بيان: ومن الأمثلة: قوله تعالى: “ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم”.
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره: حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: “ما أرى قُرَّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء!”، فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كنا نخوض ونلعب! فقال: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون)، إلى قوله: (مجرمين)، وإن رجليه لتنسفان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بنِسْعَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
– أو فعل واقع يحتاج إلى معرفة حكمه، مثاله قوله تعالى: “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير” (المجادلة:1).
– أو سؤال ينزل القرآن بجوابه:
فأسباب النزول يقصد بها كذلك ما نزل من القرآن جوابا على أسئلة تطرح، وقد يكون السؤال من مسلم كالأسئلة التي يلقيها الصحابة رضي الله عنهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: “ويسألونك عن المحيض..”، و”يسألونك عن الأنفال…”، و”يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج..” (البقرة:189).
أو من مشرك كقوله تعالى: “وضرب لنا مثلا ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم” (سورة يس).
روى الإمام ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن العاصي بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففته بيده، ثم قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيحيي الله تعالى هذا بعد ما أرى؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “نعم، يميتك الله ثم يحييك، ثم يدخلك جهنم”، قال: ونزلت الآيات من آخر “يس” (تفسير ابن أبي حاتم:10/3203).
وفي رواية أن السائل أبي بن خلف، لكن العلامة مقبل الوادعي رحمه الله تعالى اكتفى بذكر الرواية الأولى في مسنده (ص:174).
وقد يكون السؤال عن أمر ماض كالسؤال عن ذي القرنين “ويسألونك عن ذي القرنيين” (الكهف:83)، أو عن أمر حاضر نحو قوله جل وعلا: “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” (الإسراء:85)، أو عن أمر مستقبل مثل قوله تعالى: “يسألونك عن الساعة أيان مرساها..” (النازعات:42).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *