“والحاصل أنه لا بد من الفرق بين القضاء الذي هو صفة الرب وبين المقضي الذي هو مخلوقه، كما يجب الفرق بين الفعل والمفعول والخالق والمخلوق ونحو ذلك؛ فإن الأول صفة الرب التي لا يمكن أن يلحقها نقص أو ذم، والثاني قد يكون فيه ما يعاب أو يذم. وبهذا البيان يزول إشكال طالما أورد الناس موارد الهلكة، حيث لم يهتدوا إلى الفرق بين القضاء والمقضي حتى آل أمر كثير منهم إلى استحسان الكفر وسائر المعاصي، وزعموا أن كل ما قضاه الله محبوب مرضي وأن العاصي مطيع لله بتنفيذ قضائه كالمطيع له سواء.. وكل هذا كان بسبب الخلط بين المعاني وعدم الاهتداء إلى الفرق بينهما، فالأمر الشرعي والكوني عندهم سواء، والقضاء والمقضي سواء، والإرادة الكونية والشرعية سواء -أي أنهم سووا بين المحبة والمشيئة- ..” .
يقول ابن القيم في نونيته: هذا البيان يزيل لبسا طالما هلكت عليه الناس كل زمان
ويحل ما عقدوا بأصولهم وبحوثهم فافهمه فهم بيان
وقد هدى الله تعالى أهل السنة والجماعة إلى التفريق بين كل ذلك فعلموا أن المحبة أو الإرادة الشرعية شيء والمشيئة الكونية شيء آخر وألا تلازم بينهما، كما اعتقدوا أن القضاء ليس عين المقضي، وأن الحكم الكوني ليس هو عين الحكم الشرعي، فالسعيد من وافق حكم الله الشرعي وعمل بما يرضي الرب العلي والشقي من وافق حكمه الكوني معرضا عن حكمه الشرعي.
وصدق ابن القيم رحمه الله إذ يقول:
من وافق الكوني وافق سخطه إن لم يوافق طاعة الديان
1- حكمة الله تعالى:
مما يتضمنه اسم الله الحكيم إثبات الحكمة لله جل جلاله، فأفعاله سبحانه كلها تابعة لحكمته، لا يخلق شيئا عبثا ولا يشرع شرعا سدى، بل كل خلقه وأمره مرتبط بحكمته، كما قال تعالى: “حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ”.
وقد ورد إثبات الحكمة لله تعالى في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى من ذلك اثنين وعشرين وجها في كاتبه شفاء العليل، أنقل لإخواني القراء بعضها ومن أراد الوجوه الأخرى بالتفصيل فعليه بالكتاب:
* التصريح بلفظ الحكمة وما تصرف منه كقوله تعالى: “حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ”.
* إخباره سبحانه أنه فعل كذا لكذا، وأنه أمر بكذا لكذا، كقوله تعالى: “..ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ..”، وقوله: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً”.. وقوله: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..” .
* ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلل به كقوله: “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً”، ونصب ذلك على المفعلول له أحسن من غيره.. وقوله: “فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً” أي للإعذار والإنذار، وقوله: “أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ” أي لأجل التبصرة والذكرى، والفرق بينهما أن التبصرة توجب العلم والمعرفة، والذكرى توجب الإنابة والانقياد وبهما تتم الهداية.
* تعليله سبحانه عدم الحكم القدري والشرعي بوجود المانع منه كقوله: “وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ”، وقوله: “وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ..”.
* إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة كقوله: “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً..”، “أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى” وقوله: “وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ”، والحق هو الحكم والغايات المحمودة التي من لأجلها خلق ذلك كله، وهو أنواع كثيرة منها: أن يعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته، ومنها أن يحب ويشكر ويذكر ويطاع، ومنها أن يأمر وينهى ويشرع الشرائع، ومنها أن يدبر الأمر ويبرم القضاء ويتصرف في المملكة بأنواع التصرفات، ومنها أن يثيب ويعاقب فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فيوجد أثر عدله وفضله موجودا مشهودا فيحمد على ذلك ويشكر، ومنها أن يعلم خلقه أنه لا إله غيره ولا رب سواه.. إلى غير ذلك من الحكم التي يتضمنها الخلق..
* إنكاره سبحانه أن يسوي بين المختلفين أو يفرق بين المتماثلين وأن حكمه وعدله يأبى ذلك.. كقوله: “أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ..”، “أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ”.. فأخبر أن هذا حكم باطل جائر يستحيل نسبته إليه كما يستحيل نسبة الفقر والحاجة والظلم إليه ومنكروا الحكمة والتعليل يجوزون نسبة ذلك إليه بل يقولون بوقوعه.