من فقه البيوع أحكام المال الحرام [حكم معاملة أصحاب المال الحرام] (تابع ) (الحلقة التاسعة)

سبق في الحلقة القادمة أن معاملة أصحاب المال الحرام لا تخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يقع التعامل مع حائز المال الحرام في عين المال الحرام الذي لم يخالطه مال حلال، وقد عرفنا أن حكم التعامل في هذه الحال: التحريم.
الحال الثانية: -وهي موضوع هذه الحلقة- أن يقع التعامل مع حائز المال الحرام في مال مختلط حلال وحرام.
* اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أربعة أقوال .
القول الأول: يجوز معاملة حائز المال الحرام المختلط بالمال الحلال إذا غلب الحلال، ويمنع إذا غلب الحرام، وهذا قول الحنفية وابن القاسم من المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية.
القول الثاني: يكره مبايعة من في ماله حلال وحرام مختلط وكذا يكره أكل طعامه وقبول هديته سواء أقل الحرام أو أكثر، وهذا مذهب الشافعية، وابن وهب من المالكية وقول في مذهب أحمد.
القول الثالث: يجوز معاملة حائز المال الحرام المختلط بالحلال مطلقا، قلّ الحرام أو كثر، وقد ذهب إلى هذا القول الإمام الشوكاني رحمه الله.
القول الرابع: يحرم معاملة المسلم إذا اختلط ماله بالحرام مطلقا سواء قلّ أو كثر، وكذا لا يجوز قبول هديته ولا هبته، ولا أكل طعامه. وهذا قول أصبغ من المالكية وأحد الأقوال في مذهب الحنابلة.
حجة القول الأول:
لم يذكر أصحاب هذا القول دليلا لما ذهبوا إليه، من يستدل لهم بأن قاعدة الشرع إعتبار الغالب كما نص عليه ابن رشد في البيان والتحصيل، فإذا كان الغالب على مال المسلم أنه من كسب حلال جازت معاملته لغلبة الحلال على ماله، وإن كان الأمر بالعكس فلا.
حجة القول الثاني:
احتج أصحاب هذا القول بما روى الشيخان من حديث النعمان بن بشير قال: سمعـت رسـول الله صلي الله عـليه وسلم يقول: “إن الحلال بين وإن الحـرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعـلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرضه ومن وقع في الشبهات وقـع في الحرام، كـالراعي يـرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجـسد مضغة إذا صلحـت صلح الجسد كله، وإذا فـسـدت فـسـد الجسـد كـلـه ألا وهي الـقـلب”.
قال ابن رشد معللا قول ابن وهب في كراهة معاملة حائز المال الحرام المختلط بالحلال: (أما قول ابن وهب فوجهه أن الحرام لما اختلط بماله صار شائعا فيه، فإذا عامله في شيء منه فقد عامله في جزء من الحرام، فرأى ذلك من المتشابه ومنع منه على وجه التوقي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الحلال بين وإن الحـرام بين وبينهما أمور مشتبهات..، فمن اتقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرضه” الحديث .
حجة القول الثالث:
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما هاجروا إلى المدينة كانوا يعاملون اليهود وأهل المدينة ومن حولها من الأعراب وهم مستحلون لكثير مما حرمه الإسلام، فلو كان التعامل مع من كان في ماله كسب حرام ممنوعا لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود وأهل المدينة.
حجة القول الرابع:
أما أصبغ الذي ذهب إلى حرمة التعامل مطلقا مع من اختلط ماله بالحرام فقد استدل لما ذهب إليه: بأن الحرام يصير شائعا في المال كله فيصير المال كله حراما.
* وبالنظر في أدلة هذه الأقوال يظهر أن القول الثاني وهو القول بكراهة معاملة من اختلط ماله بالحرام أقوى هذه الأقوال لقوة مأخذه. فإن معاملة من اختلط ماله بالحرام يورث شبهة أن يكون التعامل قد وقع في المال الحرام، فالأولى للمسلم أن يستبرئ لدينه وعرضه ويترك هذا التعامل، لكن لما كان هذا الاستبراء على وجه التوقي لم يكن هذا التعامل حراما لأن ما كان اجتنابه على وجه التوقي يكون مكروها لا حراما.
* ثم يلي هذا القول من حيث القوة القول الأول: أن من غلب الحلال على ماله جازت معاملته ومن غلب الحرام على ماله لم يجز معاملته. لما سبق أن قاعدة الشرع اعتبار الغالب، لكن يشكِل أنه لم يرد في الشرع تحديد لمقدار الغالب.
* وأما ما ذهب إليه الشوكاني رحمه الله من جواز معاملة من اختلط ماله بالحرام مطلقا، فإنه قياس على معاملة الكافر، وفرق بين معاملة المسلم ومعاملة الكافر، فإن الكافر لا يعتقد ما يعتقده المسلم فيما يتعامل به من حيث الحل والحرمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ولهذا قال العلماء: إن الكفار إذا تعاملوا بينهم بمعاملات يعتقدون جوازها وتقابضوا الأموال ثم أسلموا كانت تلك الأموال لهم حلالا وإن تحاكموا إلينا أقررناها في أيديهم سواء تحاكموا قبل الإسلام أو بعده ” انتهى كلامه رحمه الله، وقد سبق بحث هذه المسألة في مقال مستقل.
* وأما القول الرابع: قول أصبغ: أنه يحرم معاملة من اختلط ماله بالحرام تحريما مطلقا. فقد ردّه جماعة من أصحابه وشنعوا عليه في ذلك. قال أبو الوليد ابن رشد في البيان والتحصيل: “وقول أصبغ تشدد فإن قاعدة الشرع اعتبار الغالب”.
وقال ابن العربي فيما نقله عنه القرطبي: “وهذا غلو في الدين” انتهى كلامه رحمه الله.
– ثم إن الأخذ بهذا الرأي يفضي إلى سدّ باب التعامل مع الناس وإيقاعهم في الحرج والمشقة.
* تنبيه: سواء قلنا بجواز معاملة من اختلط ماله بالحرام مع الكراهة أو بجواز معاملته إذا كان الحلال هو الغالب فإن محل الجواز ما لم تقع المعاملة في عين المال الحرام. قال شيخ الإسلام: “فمن علمت أنه سرق مالا أو خانه في أمانة أو غصبه فأخذه من المغصوب قهرا بغير حق لم يجز أن آخذه منه لا بطريق الهبة ولا بطريق المعاوضة ولا وفاء عن أجرة ولا ثمن مبيع ولا وفاء عن قرض، فإن هذا عين مال المظلوم” .
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.
————-
1 – أنظر أحكام المال الحرام لعباس الباز ص:240.
2 – فتاوى ابن رشد (1/634-635).
3 – مجموعة الرسائل الكبرى (2/45-46).
4 – مجموع الفتاوى (29/323).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *