الوضوء من خروج الريح واجب لمن أراد الصلاة، وقد ثبت ذلك في صحيح السنَّة، وأجمع عليه علماء الإسلام قاطبة.
فَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ) قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ. البخاري:135 ومسلم:225.
وعَنْ عَبْدِ الله بنِ زَيْد أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ فَقَالَ: (لا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحاً) البخاري:137 ومسلم:361.
قال ابن المنذر رحمه الله: وأجمعوا على أن خروج الغائط من الدبر، وخروج البول من الذكر، وكذلك المرأة، وخروج المني، وخروج الريح من الدبر، وزوال العقل بأي وجه زال العقل: أحداث ينقض كل واحد منها الطهارة، ويوجب الوضوء. الإجماع ص:29.
والمسلم يعتقد أن ما شرعه الله تعالى فيه الحكمة البالغة، ومن مقتضى الإيمان به تعالى: تعظيم أوامره ونواهيه، واعتقاد أنه لم يشرع إلا ما فيه حكمة بالغة، ولا يتوقف انقياد المسلم لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم على معرفته بحكمة التشريع، بل يكفيه أن يعلم ما شرع الله فيسارع إلى تنفيذه.
قال ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب (ص:35):
(ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يحمل الأمرَ على عِلةٍ تُضعِف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يُسَلِّمُ لأمرِ الله تعالى وحُكمه، ممتثلا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر، فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه: حمله ذلك على مزيد الانقياد بالبذل والتسليم لأمر الله).
ومن حكمة التشريع: أن الريح التي تخرج من الدبر تخرج من موضع خروج الغائط الذي ينقض الوضوء، فأخذت حكمه، بخلاف الريح التي تخرج من الفم (الجشاء) فلا تنقض الوضوء.
قال ابن القيم رحمه الله: وأما قوله: “وفرَّق بين الريح الخارجة من الدبُر وبين الجشوة فأوجب الوضوء من هذه دون هذه”: فهذا -أيضاً- من محاسن هذه الشريعة وكمالها، كما فرق بين البلغم الخارج من الفم وبين العذرة في ذلك.
ومَن سوَّى بين الريح والجشاء: فهو كمن سوَّى بين البلغم والعذرة، والجشاء من جنس العطاس الذي هو ريح تحتبس في الدماغ ثم تطلب لها منفذاً، فتخرج من الخياشيم، فيحدث العطاس، وكذلك الجشاء ريح تحتبس فوق المعدة، فتطلب الصعود، بخلاف الريح التي تحتبس تحت المعدة.
ومن سوَّى بين الجشوة والضرطة في الوصف والحكم: فهو فاسد العقل والحس. إعلام الموقعين 2/107-108.
وقد يخرج مع الريح شيء من الرطوبة لا يشعر بها صاحبها، فحسم الشرع الأمر بالوضوء من خروج الريح.
قال القفال الشاشي رحمه الله: وكان أصل الأحداث: ما خرج من السبيلين من غائط وبول ونحوهما؛ لأن كل ما خرج منهما أو من أحدهما لاحقٌ بجملة ما يُستقذر ويُجتنب، ثم كان زوال العقل مما يزول معه التكليف في الحال ويخرج من سبيليْ صاحبه ما يتجاوز مخرجه ويجتنبه، وينبغي التنظف منه، وأقل ذلك الريح الخارجة من الدبر؛ لأنها في كثير من الأحوال لا تخلو من أن تقترن بها نداوة ورطوبة فيتعذر التحفظ من ذلك، فحسَم الباب، وألحَق ما خرج منه بمعنى الغائط والبول إذ كانت الريح مقدمة لهما. محاسن الشريعة (1/169).
ويقال أيضاً: إن مقتضى إجلال الله تعالى أن يحافظ المسلم في صلاته على أن يكون في أحسن حال، من حيث اللباس، والرائحة، وطهارة المكان، وهذا يتنافى مع إباحة إخراج الريح، وجعلها غير ناقضة للوضوء.
وبكل حال فإن الوضوء عبادة، وإن تشريع أسباب نواقض الوضوء فيه الحكَم البالغة، والمسلم الحق هو الذي يعتقد في ربه تعالى أنه حكيم، وأن تشريعاته فيها الحكمة البالغة، وها نحن نرى في عالم البشر من يتناول دواءه في أوقات محددة، وطرق مبيَّنة، وكميات محدَّدة، وهو يلتزم ذلك دون سؤال عن (كيف) و(لماذا)، وما ذاك إلا لثقته بعلم الطبيب الذي وصف له الدواء وطرق تناوله، فلمَّا ترسَّخ له الثقة بعلمه لم يسأل عن الحكمة، ولله المثل الأعلى فإنه العليم الحكيم، ومن آمن بربه تعالى وأثبت له العلم فلا يجد غضاضة في الاستجابة لأوامره ولو لم يدرك الحكمة، فكيف لو وقف على شيء من تلك الحكَم بعد تلك الاستجابة؟! (انظر: الإسلام سؤال وجواب).