المال عصب الحياة، وبه قيامُ مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقِد لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة (1) ولذلك عده العلماء من الضروريات الخمس(2)، التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع.
فشُرع لحفظه وحمايته تحريمُ أكله بالباطل، كما قال سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ” (النساء29)، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنواع من المبايعات المشتملة على الظلم، وأكل المال بالباطل، ومن جملتها بيوع الغرر. فنذكر في هذه الحلقات النصوص التي تنهى عن هذا النوع من البيوع، وما اشتملت عليه من الفقه.
الحديث الأول
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر” (رواه مسلم 1513).
– بيع الحصاة
– أما بيع الحصاة ففسر بأن يقول البائع: ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا، فقد تقع الحصاة على ثوب نفيس، وقد تقع على ثوب رديء.
– وفسر بأن يقول بعتك من هذه الأرض ما انتهت إليه الحصاة في الرمي، فإما أن تنتهي إلى مكان بعيد وإما أن تنتهي إلى مكان قريب، بحسب قوة الرامي أو ضعفه، وبحسب حال الريح ونحو ذلك.
– وفسر بأن يعترض البائع القطيع من الغنم، فيأخذ حصاة ويقول: أي شاة أصبتها فهي لك بكذا، فقد يصيب شاة سمينة، وقد يصيب هزيلة.. إلى غير ذلك من الصور(3 ).
قال ابن القيم رحمه الله: “وهذه الصور كلها فاسدة؛ لما تتضمنه من أكل المال بالباطل، ومن الغرر والخطر الذي هو شبيه بالقمار”( 4).
– بيع الغرر
أما بيع الغَرَر فهو في اللغة: من غَرِّ الثوب أي: طَيّه، أو من الغِرَّةِ ،أي: الغفلة، أو من الغرور.
وفي الشرع: هو كل بيع مجهول العاقبة، وعرف بأنه كل بيع صحبه الغرر، أي: الخداع(5 ). ولا تعارض، فإن بيع الغرر جامع لذلك كلِّه.
الحكمة من تحريم بيوع الغرر
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والغرر هو المجهول العاقبة، فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وذلك أن العبد إذا أبَقَ (أي هرب من سيده)، أو الفرس أو البعير إذا شَرَد (أي ضل) فإن صاحبه إذا باعه، فإنما يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير، فإن حصل له؛ قال البائع قمرتني، وأخذت الثمن مني بلا عوض، فيُفْضِي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم، ففي بيع الغرر ظلم، وعداوة وبغضاء”.
أقسام بيوع الغرر
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: “وأما النهي عن بيع الغرر، فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع؛ ولهذا قدمه مسلم، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة”(6 ).
ومجملها أن يكون المعقود عليه: (1)- معدوما،(2)- أو مجهولا، أو(3)- غير مقدور على تسليمه(7 ).
1- مثال بيع المعدوم
أن يقول البائع: بعتك ما ستَحْمِلُ به هذه الشاة أو هذه البقرة، أو يقول بعتك ثمرة هذا البستان للعام القادم، فهذا كله من بيع المعدوم الذي لا يُدرى أيَحْصُلُ أو لا يَحْصُل.
2-مثال بيع المجهول
أن يقول بعتك ما في بطن هذه الشاة، أو يقول بعتك اللبن الذي في ضرع هذه الشاة.. ومن ذلك ما يفعله بعض الجزارين من بيع أحشاء الأبقار أو الشياه وهي حية، قبل أن تذبح وتستخرج أحشاؤها، فإنه بيع مشتمل على غرر وجهالة ومخاطرة، فقد تسلم هذه الأحشاء من العيوب والعلل وقد لا تسلم، وقد يقدِّر المشتري أنها تزن شيئا كثيرا ويكون الأمر بخلاف ذلك، إلى غير ذلك من الاحتمالات، فيرى نفسه حينها مغلوبا مغبونا، ويرى أن البائع قد ظلمه وقهره، وأخذ ماله بغير حق، فلا تسأل عمّا يحدث له من الهمِّ والغم، والبغض له، وإرادة الشر والسوء به.
3- مثال بيع ما لا يُقدر على تسليمه
مثل بيع السمك في الماء، أو الطير في الهواء، ونحو ذلك مما يذكره الفقهاء في هذا الباب.
ومما سبق يُعلم أن عَطْفَ بيع الغرر على بيع الحصاة في الحديث، من باب عطف العام على الخاص، فإن بيع الحصاة داخل في بيوع الغرر، لما فيه الجهالة والمخاطرة، وإنما أُفرد لكونه بيعا كان يتبايعه أهل الجاهلية، فجاء الإسلام بالنهي عنه(8 ). والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1])- انظر الموافقات للشاطبي 2/8.
([2])- وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال وزاد تاج الدين السبكي ضرورة سادسة وهي العرض.
([3])- انظر نيل الأوطار (4/13).
([4])- زاد المعاد (5/725).
([5])- مرقاة المفاتيح للعلامة علي القاري (6/72).
([6])- شرح صحيح مسلم (10/156).
([7])- انظر مجموع الفتاوى (29/26)، ومرقاة المفاتيح للعلامة على القاري (6/72).
([8])- التمام شرح بلوغ المرام للعلامة الحسين بن محمد ين سعيد المغربي (3/35)، وشرح بلوغ المرام لابن عثيمين (3/530).