من فقه البيوع الأعيان التي يحرم بيعها )2( حكم بيع الكلاب واتخاذها ياسين رخصي

في الصحيحين: “عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغِيّ وحُلْوَان الكاهن”.

وفي صحيح البخاري: “عن أبي جُحيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب”.
وفي صحيح مسلم: “عن أبي الزبير قال: سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور (القط) فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك”.
قال ابن القيم رحمه الله: “فتضمنت هذه السنن أربعة أمور: أحدها تحريم بيع الكلب، وذلك يتناول كل كلب صغيرا كان أو كبيرا، للصيد أو للماشية أو للحرث، وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث قاطبة، والنزاع في ذلك معروف عن أصحاب مالك وأبي حنيفة. فيُجَوِّز أصحاب أبي حنيفة بيع الكلاب وأكل أثمانها، وقال القاضي عبد الوهاب (من المالكية): اختلف أصحابنا في بيع ما أذِن في اتخاذه من الكلاب، فمنهم من قال يُكرَه ومنهم من قال يَحرُم…”(1).
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز بيع كلب الصيد خاصة.
واستدلوا بما روى النسائي من حديث جابر بن عبد الله قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد”، قال في الفتح: “رجال إسناده ثقات، إلا أنه طُعِن في سنده، وله شاهد ضعيف بنحوه عند الترمذي، فمن صح عنده حديث جابر قال بحمل المطلق على المقيد فيجري التحريم على جميع الكلاب إلا كلب الصيد، ومن لم يصح عنده الحديث كالجمهور قال بتعميم التحريم”(2).
هذا وإن كثيرا من المسلمين قد تساهل في اقتناء الكلاب التي لم يؤذن لهم فيها، غفلة منهم أو تغافلا عما ورد في ذلك من وعيد شديد، حتى إنك ترى بعضهم من فرط شغفه بها يقبلها ويحتضنها ويلاعبها ويصطحبها معه في حله وترحاله..، ومنهم من يصرف عليها الأموال الكثيرة في أنواع المطعومات ونحوها، وهو لا يزال يقصر في نفقات نفسه وأهله..، فإذا مرض الكلب أصاب أحدهم من الهم والغم ما لا يخِفُّ عنه حتى يعوده من يُصَبِّرُه! فإن مات فمن يصبره؟!
إلى غير ذلك مما في كثير منه تشبه بغير المسلمين الذين تناقل الناس عنهم في هذا الشأن أمورا غريبة عجيبة، فسمعنا بمن يوصي للكلاب والقطط بعد موته، فيجعل لها مما ترك نصيبا مفروضا..
أما ما ورد من الوعيد في ذلك فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض (أي زرع) فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم”.
والقيراط: قيل هو مقدار معلوم عند الله تعالى، والمراد: نقص جزء من عمله، وقيل هو قدر عظيم قربه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأفهام في بعض الأحاديث بأنه مثل جبل أحد.
“وقد اختلف العلماء في سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب، فقيل لامتناع الملائكة من دخول بيته (أي بيت المتخذ) بسببه، وقيل لما يلحق المارين من الأذى من ترويع الكلب لهم، وقصده إياهم، وقيل إن ذلك عقوبة له لاتخاذه ما نهي عن اتخاذه وعصيانه في ذلك”(3)، وقيل لشدة نجاسته وقذارته.
أما امتناع الملائكة من دخول بيت فيه كلب فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي طلحة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تصاوير”، بل روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس”.
وأما شدة نجاسته وقذارته ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب”، وهذا الحديث دليل من دلائل صدق نبوته صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق-، فقد اكتشف الطب الحديث أن في لعاب الكلب مكروبات مُعْدِية فتاكة لا سبيل إلى إزالتها إلا بما وصف النبي صلى الله عليه وسلم من غسل الإناء سبعا إحداهن بالتراب.
قال الدكتور الإسمعلاوي المهاجر: “أكد كشف طبي جديد حقيقة ما أوصى به نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم عندما حذر الأطباء من أن لمس الكلاب ومداعبتها والتعرض لفضلاتها أو لعابها يزيد خطر الإصابة بالعمى، فقد وجد بيطريون مختصون أن تربية الكلاب والتعرض لفضلاتها من براز وبول وغيرها، ينقل ديدان طفيلية تعرف باسم “توكسوكارا كانيس” التي تسبب فقدان البصر والعمى”(4).
“كما بين بعض الأطباء أن هذه الديدان تصيب الرئة والكبد بأمراض خطيرة”(5).
مسائل:
1- قال الشيرازي في المهذب: “وهل يجوز اقتناؤه لحفظ الدور؟
فيه وجهان أحدهما لا يجوز للخبر، والثاني يجوز لأنه حفظ مال فأشبه الزرع والماشية “(6).
2- إذا قال قائل: كيف السبيل إلى ما أبيح اتخاذه من الكلاب على القول بتعميم تحريم البيع؟
قيل: “الواجب على من عنده كلب صيد أو حرث أو ماشية إذا استغنى عنه أن يبذله مجانا لمن أراده أو يسيبه، لأنه لا يجوز اقتناء الكلب إلا لحاجة من الحوائج الثلاثة”(7).
3- قال ابن حزم: “وَلا يَحِلُّ بَيْعُ كَلْبٍ أَصْلا, لا كَلْبَ صَيْدٍ وَلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ, وَلا غَيْرَهُمَا, فَإِنْ اضْطُرَّ إلَيْهِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُعْطِيه إيَّاهُ فَلَهُ ابْتِيَاعُهُ, وَهُوَ حَلالٌ لِلْمُشْتَرِي حَرَامٌ عَلَى الْبَائِعِ..” (8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- زاد المعاد (5/680).
2)- أنظر فتح الباري (4/427).
3)- صحيح مسلم بشرح النووي (10/234).
4)- من مقال بعنوان: كشف طبي يؤكد التحذير النبوي من لمس الكلاب (Ismaily.Online.htm).
5)- نقلا عن الموسوعة الطبية (11/1961-1962) بتصرف.
6)- المجموع شرح المهذب ص:279 ج 9.
7)- المحلى (7/493)
8)- شرح بلوغ المرام لابن عثيمين (3/481).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *