تطور النقود وتاريخ ظهور الأوراق النقدية
يذهب أكثر الباحثين في تاريخ النقود إلى أن البشرية عرفت نظام المقايضة قبل استخدام النقود، ونظرا لتطور الحياة وما في الأخذ بالمقايضات من صعوبات، استخدم الناس بدل ذلك نقودا سلعية كالقمح والحرير والماشية والخرز.
ثم استخدمت النقود المعدنية، سواء أكانت المعادن المتخذة منها نفيسة -كالذهب والفضة- أم غير نفيسة، كالحديد والنحاس.
وكان اختيار المعادن النفيسة على وجه الخصوص لما امتازت به من مزايا، أهمها: جمالها، وبعدها عن التلف، وقابليتها للتجزئة لأجرام متماثلة يتلاءم حجمها مع القيم المختلفة، وندرتها نسبيا مما يُثَبِّت قيمتها، فتُتَبادل كمية كبيرة من السلع بجزء يسير منها.
وعلى رغم ما امتاز به الذهب والفضة من خصائص إلا أن هناك أسبابا استجدت جعلتهما يُنَحَّيان من الاستخدام النقدي الفعلي، واستخدما رصيدا ووسيلة للدفع أو سلعة فقط.
ومن أهم تلك الأسباب: ندرتهما النسبية التي لا تسمح بالتوسع في استخدامهما لكثرة المشروعات التي تحتاج إلى سيولة نقدية، والتوسع في استخدامهما في الصناعات والحلي، وصعوبة حملهما مع كثرتهما، فمن هنا نشأت الأوراق النقدية التي صار لها قبول عام، وأصبحت خزائن للثروة، ومقياسا للقيم، وقوة شرائية مطلقة(1).
ولقد عُرفت النقود الورقية بكثرة في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، وكان أولَ من أصدرها بنك “استوكهلم” بالسويد، وتعهد بأداء قيمتها ذهبا عند الطلب، وكانت تسمى الأوراق النقدية في هذه المرحلة بالنقود الورقية الاختيارية، لأن الناس كانوا مخيَّرين بين قبولها أو ردِّها وأخذ ما يقابلها من الذهب.
ولما اطمأن الناس إلى صدق البنوك المصدرة لهذه الأوراق، وزادت الثقة بها، زاد الطلب عليها، وقَلَّ السؤال عن غطائها، ورأت الحكومات أن تؤيد هذا النظام بالقانون، فأعطتها صفة القانونية، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع بقاء قابليتها للتحويل بقيمتها ذهبا عند الطلب.
ثم مع بداية الحرب العالمية الأولى، واهتزاز الثقة بالأوراق النقدية، قامت الحكومات بإصدار قانون يُلزم الناس قبول تلك الأوراق النقدية في التعامل، دون أن يكون في استطاعتهم تحويلها إلى قيمتها من الذهب أو الفضة، وتم هذا في كل من انجلترا وفرنسا سنة 1914م، وفي مصر بتاريخ: 20/8/1914م(2).
حكم الأوراق النقدية
ذكرنا في العدد السابق خلاف أهل العلم المعاصرين في التكييف الفقهي لهذه الأوراق، وأن المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وكذلك مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وغيرها من الهيئات الشرعية، ذهبوا إلى أن هذه الأوراق نقد مستقل قائم بذاته.
ويدل لذلك أن القبول العام للأوراق النقدية كوسيط للتبادل ليس للرصيد الذي يغطيها من الذهب والفضة فحسب، بل له ولأجل أمر السلطان وقوة الدولة سياسيا واقتصاديا، ولهذا فقد لا يكون الغطاء لجميع الأوراق النقدية الموجودة في أيدي الناس، بل قد يكون لجزء قليل منها فقط.
وحيث إن علة جريان الربا في الذهب والفضة هي مطلق الثمنية -كما هو رواية عن أحمد، وحكاه ابن العربي قولا لمالك رحمه الله، والمرجح عند شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو الذي عليه كثير من الهيئات العلمية الشرعية- وهي موجودة في الأوراق النقدية فإنها تأخذ حكم الذهب والفضة.
ولذلك جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي ما نصه: “إنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا، والزكاة والسلم وسائر أحكامهما”(3).
وسيأتي في الحلقة القادمة إن شاء الله ذكر بعض ما يتعلق بهذه الأوراق من أحكام.
والله الموفق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- الزيادة وأثرها في المعاوضات المالية، لعبد الرؤوف الكمالي (2/595-597)، وانظر بحث حكم الأوراق النقدية، للجنة الدائمة في مجلة البحوث الإسلامية المجلد الأول-العدد الأول، ص:190.
(2)- المصدر السابق، ص:597.
(3)- أنظر القرار رقم 9 بشأن أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة، المؤتمر الثالث بعمان: 1407هـ الموافق لـ 1986م، وفقه الربا لعبد العظيم أبو زيد ص:325.