فوائد العلم بأسباب النزول -ح. الأخيرة- ناصر عبد الغفور فوائد معرفة أسباب النزول (تتمة..)

المثال الثاني
روى الإمام ابن جرير في تفسيره بسنده عن أبي العالية «إن خويلة ابنة الدليج أتت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وعائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي، ونفضت له بطني، وظاهر مني؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: حَرُمْتِ عَلَيْهِ، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي، ثم قالت: يا رسول الله طالت صحبتي، ونفضت له بطني، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: حَرُمْتِ عَلَيْهِ، فجعل إذا قال لها: حرمت عليه، هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي، قال: فنزل الوحي، وقد قامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر، فأومأت إليها عائشة أن اسكتي، قالت: وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات، فلما قضى الوحي، قال: ادْعي زَوْجَكِ، فَتَلاها عَلَيْهِ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا…} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي يرجع فيه {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أَتَسْتَطِيْعُ رَقَبَةً؟ قال: لا؛ قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} قال: يا رسول الله، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرّات خشيت أن يعشو بصري؛ قال: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} قال: أتَسْتَطيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينا؟ قال: لا يا رسول الله إلا أن تعينني؛ فأعانه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأطعم» (جامع البيان في تأويل آي القرآن-23/219).
وفي رواية عن عروة بن الزبير قال: قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك؛ فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله} (صحيح ابن ماجة وغيره).
والملاحظ من خلال الروايتين اختلاف اسم المجادلة التي اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر هذا الاختلاف الإمام الطبري في جامع البيان، يقول رحمه الله تعالى: «واختلف أهل العلم في نسبها واسمها، فقال بعضهم: خولة بنت ثعلبة، وقال بعضهم: اسمها خُوَيلة بنت ثعلبة، وقال آخرون: هي خويلة بنت خويلد، وقال آخرون: هي خويلة بنت الصامت، وقال آخرون: هي خويلة ابنة الدليج».
وعودا على بدأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتبين له الحكم الصحيح في مسألة الظهار إلا بالوحي، وهذا مما يدل على أن القرآن الكريم إنما هو تنزيل من الله تعالى.
-8 بيان عناية الله تعالى برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في الدفاع عنه
فمن فوائد معرفة أسباب النزول ظهور عناية الله جل جلاله بنبيه صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، ومن أمثلة ذلك:
آيات الإفك التي نزلت دفاعا عن فراشه صلى الله عليه وسلم، وتطهيرا له عما دنسه به المنافقون والأفاكون، وتبرئة لأحب وأعز أزواجه إليه، أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها.
-9 ظهور عناية الله سبحانه بعباده في تفريج كربهم والتخفيف عنهم
ومن أوضح الأمثلة على هذا الأمر ما يتعلق بسبب نزول آية التيمم، ففي صحيح البخاري عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، -قالت عائشة- فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر -قالت- فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته» (صحيح البخاري-334).
ففي هذا الحديث العظيم يتبين لنا فائدة جليلة من فوائد علم أسباب النزول، حيث نلتمس عظم رحمة الله تعالى بعباده، ومدى عنايته بهم في إزالة غمومهم وتفريج كربهم والتخفيف عنهم.
-10 تيسير حفظ القرآن الكريم
فإن معرفة أسباب النزول والحوادث والملابسات والقرائن التي احتفت بنزول الآيات، كل ذلك مما يساعد على فهم كلام الله تعالى وتيسير الحفظ وترسيخ الآيات في ذاكرة الإنسان، يقول العلامة الزرقاني رحمه الله تعالى: «وذلك لأن ربط الأسباب بالمسببات، والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص، والأزمنة والأمكنة؛ كل أولئك من دواعي تقرر الأشياء وانتقاشها في الذهن، وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها في الفكر، وذلك هو قانون تداعي المعاني المقرر في علم النفس» (مناهل العرفان-1/113).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
– جامع البيان في تأويل آي القرآن.
– الإتقان في علوم القرآن للإمام جلال الدين السيوطي.
– البرهان في علوم القرآن لإمام بدر الدين الزركشي.
– مناهل العرفان في علوم القرآن للعلامة محمد عبد العظيم الزرقاني.
– مقدمة في التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية.
– أصول في التفسير للعلامة ابن عثيمين.
– المقاصد الحسنة.
– السلسلة الصحيحة.
– صحيح البخاري.
– السنن الأربعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *