من درر السنة النبوية (الحلقة الخامس عشرة) ذ.محمد أبوالفتح

• الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَه،ُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ».
متفق عليه واللفظ لمسلم.

• تأملات في الدُّرة:
في هذه الدرة النبوية يحضنا صلى الله عليه وسلم على حفظ اللسان، ويوصينا بالجار والضيف خيرا.

فأما حفظ اللسان فيتحقق بإعماله في الخير، وإمساكه عن الشر، وقد جاءت في الأمرين آيات كريمة، وأحاديث كثيرة.
فمن القرآن قوله تعالى: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” (ق:16-18).
وقوله تعالى: “وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً” (الإسراء:53).
وقوله تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ” (إبراهيم 24-26).
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: “رحم الله امرء تكلم فَغَنِمَ، أو سكت فسلم” (صحيح الجامع 3492).
وقوله صلى الله عليه وسلم: “من يضمن لي ما بين لَحْيَيْه (اللسان)، وما بين رجليه (الفرج) أضمن له الجنة” (البخاري).
وقوله صلى الله عليه وسلم: “وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!” (صحيح الجامع5136).
وقوله صلى الله عليه وسلم: “الكلمة الطيبة صدقة” (متفق عليه).
ومن عجيب أمر اللسان أن له على الجوارح سلطانا؛ إذ باستقامته تستقيم، وبانحرافه تنحرف، كما قال صلى الله عليه وسلم: “إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكَفِّر اللسان (أي: تخضع وتذل له)، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا” (صحيح الجامع 351).
ويُصَدِّق ذلك قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً” (الأحزاب71)،

والأصل في صلاح اللسان والجوارح هو صلاح القلب، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا و هي القلب” (متفق عليه).
وعلى هذا فبصلاح القلب يصلح اللسان، وبصلاح اللسان تصلح الجوارح، وهذا الترابط بين القلب واللسان والجوارح، دليل على ما ذهب إليه أهل السنة، من عدم الفصل بين عمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، وذلك بإدخالها جميعها في مسمى الإيمان.
*وأما إكرام الجار، فيتحقق بكف الأذى عنه، وبذل الندى له، وقد جاء في بعض ألفاظ الحديث: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره”. وقد جاء في الوصية بالجار قوله تعالى: “وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً” (النساء36).
ومن الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه” (متفق عليه).
*وأما إكرام الضيف فقد قص الله علينا قصة ضيف إبراهيم، ولنا فيه أسوة، فقال سبحانه: “هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَإِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ” (الذاريات: 24-27).
وقد قال تعالى بعد أن ذكر إبراهيم عليه السلام وغيره من الرسل والأنبياء: “أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ” (الأنعام90).
فأمر الله تعالى نبيه بأن يقتدي بهدي من سبقه من الأنبياء، وأمرنا نحن بالتأسي بنبينا صلى الله عليه وسلم، فقال: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً” (الأحزاب21).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته)، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: (يومَه وليلَته، والضيافةُ ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك، فهو صدقة عليه) (متفق عليه).
قال العلماء: معناه الاهتمام به في اليوم والليلة، وإتحافه بما يمكن من بِرّ وإلطاف، وأما في اليوم الثاني والثالث فيطعمه ما تيسر، ولا يزيد على عادته، وأما ما كان بعد الثلاثة، فهو صدقة ومعروف، إن شاء فعل، وإن شاء ترك (شرح النووي).
• وَمَضَاتُ الدُّرة:
من فوائد الحديث:
1ـ الحث على قول الخير.
2 ـ الترغيب في الصمت لمن عجز عن التكلم بالخير.
3 ـ التذكير عند الترغيب والترهيب باليوم الآخر؛ لأنَّ فيه الحساب على الأعمال.
4 ـ الترغيب في إكرام الجار، والتحذير من إيذائه.
5 الحثُّ على إكرام الضيف والإحسان إليه.
6- التكلم بالخير، وإمساك اللسان عن الشر، وإكرام الضيف، والإحسان إلى الجار من كمال الإيمان.
7- الإيمان قول وعمل، يزيد بالأقوال والأعمال الصالحة وينقص بتركها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *