أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الرقاق من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لن ينجي أحدا منكم عمله, قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا, إلا أن يتغمدني الله برحمته, سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة, والقصد القصد تبلغوا”.
قال الحافظ ابن رجب في رسالته المحجة: “اشتمل هذا الحديث الشريف على أصل عظيم وقاعدة مهمة, ويتفرع عليها مسائل شتا من مسائل السير والسلوك إلى الله في طريقه الموصل إليه”.
أما الأصل فهو: “أن علم الإنسان لا ينجيه من النار، ولا يدخله الجنة، وأن ذلك كله إنما يحصل بمغفرة الله ورحمته” المحجة.
قال أحد السلف: “الآخرة إما عفو الله أوالنار, والدنيا إما عصمة الهي أو الهلكة”.
وهذا الحديث يتعارض في الظاهر مع قوله تعالى: “وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”.
والتوفيق بينهما بأن يقال:
1ـ أن دخول الجنة برحمة الله, واقتسام المنازل بحسب الأعمال, وهذا مأثور عن سفيان بن عيينة. انظر حادي الأرواح لابن القيم, والمحجة لابن رجب, والفتح لابن حجر رحمهم الله.
2ـ أن الباء في الآية هي باء السببية وهي المتبثة, وأما الباء في الحديث على رواية “لا يدخل أحدكم الجنة بعمله” فهي باء المقابلة والمعاوضة, وهي المنفية, انظر المراجع نفسها.
وكل ذلك فضل من الله ونعمة.
قال يحيى بن معاذ رحمه الله: “إذا بسط (أي: الله جل وعلا) فضلَه لم يبق لأحد سيئة, وإذا جاء عدله لم يبق لأحد حسنة”.
وهذا المعنى يوجب للعبد عدم الاتكال على أعماله, مع النظر إلى فضل الله ومنته.
سئل أحد الصالحين: أي الأعمال أفضل, قال: رؤية فضل الله.
ويؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: “إلا أن يتغمدني الله برحمته”.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقطوع له بدخول الجنة ومع ذلك يقول ما قال، فغيره صلى الله عليه وسلم من باب أولى, كما قال الكرماني والرافعي عليهما رحمة الله.
ومع هذا فإن العمل في دين الله له مقام عظيم والطاعة لها المنزلة الرفيعة, فلا يعن بحال أن يترك العبد عبادة الله بدعوى دخول الجنة برحمة الله فيقع المرء في الغرور والتمني ومغالطة النفس فالحذر الحذر, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث أعلاه: “سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة, والقصد القصد تبلغوا”.
ومعنى ذلك سلوك مسلك الوسطية في الأعمال فإن “الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة”.
وكان لمطرف بن عبد الله ابنٌ قد اجتهد في العبادة، فقال له: “خير الأمور أوسطها, الحسنة بين السيئتين, وشر السير الحَقْحََقة” (والحقحقة: أن يلحّ في شدة السير حتى تقوم عليه راحلته, وتعطب فيبقى منقطعا به سفره).
قال أبو عبيد رحمه الله: “يعني أن الغلوَّ في العبادة سيئة, والتقصير سيئة, والاقتصاد بينهما حسنة”.
وأُكد هذا الأمر بقوله في نهاية الحديث: “القصد القصد”.
وفي تكرير ذلك إشارة إلى المداومة على العمل كما قال ابن رجب رحمه الله في المحجة.
قال الحسن رحمه الله: “يا قوم المداومة المداومة، فإن الله يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت, ثم تلا قوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)”.
ثم أرشد عليه الصلاة والسلام إلى الأوقات التي يقوى فيها السير إلى الله تعالى إذا عمرها العبد بطاعته سبحانه حيث قال: “واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة”, وهي أوقات ثلاثة:
1ـ آخر الليل وهي الدلجة, فإن الإدلاج هو السير آخر الليل.
2ـ أول النهار وهي الغدوة.
3ـ آخر النهار وهي الروحة.
وقد كان السلف يفضلون آخر الليل على أول النهار, كما كانوا يعظمون آخر النهار على أوله كما ذكر ابن رجب.
قال ابن المبارك رحمه الله: “بلغنا أنه من ختم نهاره بذكر الله كتب نهاره كله ذكرا”.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: “تبلغوا” أي نتيجة ذلك السير: الوصول إلى الله تعالى وهو على نوعين كما قال ابن رجب رحمه الله:
الأول: الوصول الدنيوي وحقيقته: وصول القلوب إلى معرفة الله فتأنس به.
والثاني: الوصول الأخروي: وهو الدخول إلى الجنة فهي دار كرامته تعالى, وفيها رؤيته سبحانه.
نسأل الله تعالى أن يبلغنا ذلك.