مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ألا ترى أنه يقال: صدق وبرّ، وكذب وفجر ).
ضعيف موقوفا لانقطاعه، وقد صح مرفوعا كما في الصحيحين وغيرهما.
قال النووي رحمه الله: (قال العلماء: هذا فيه حثٌّ على تحري الصدق، وهو قصده، والاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه؛ فإنه إذا تساهل فيه كثر منه، فعرف به، وكتبه الله لمبالغته صديقا إن اعتاده، أو كذابا إن اعتاده. ومعنى يكتب هنا يحكم له بذلك، ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إما بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظه من الصفتين في الملأ الأعلى، وإما بأن يلقي ذلك في قلوب الناس وألسنتهم، وكما يوضع له القبول والبغضاء، وإلا فقدر الله تعالى وكتابه السابق قد سبق بكل ذلك، والله أعلم). (شرح مسلم 16/131-132).
أقول: هذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الصدق أصل يستلزم البر، وهو اسم جامع لكل خير، وأن الكذب يستلزم الفجور، وهو اسم جامع لكل شر، ولا يخفى على ذوي البصائر أن الصدق والإخلاص حقيقةً هو تحقيق الإيمان والإسلام، ومن ثم كان الصدق فرقانا بين المؤمن والمنافق، ومعلوم أن أساس النفاق الكذب، قال تعالى: “إِنَّمَا الْمُوْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ” (الحجرات)، ولا شك أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال والأعمال، وكذلك الكذب -الذي هو أساس النفاق-، قال تعالى: “إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً” (النساء)، ثم إن الصدق والأمانة متلازمان شأنهما شأن الخيانة والكذب، مما جعل سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم يوصف ويشتهر بالصدق والأمانة قبل البعثة، في إشارة خفية من رب البرية سبحانه وتعالى إلى صفة من صفات الاصطفاء والأهلية المتوخاة في المؤهلين إلى المسؤولية.
وقد قال صلى الله عليه وسلم -في ما أخرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص يرفعه بسند قوي كما في الفتح-: “يطبع المؤمن على كل شيء إلا الخيانة والكذب”، نعم أيها الفضلاء: الخيانة والكذب.. حتى جُعِلتا من سمات السنوات الخداعات التي أخبر بها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: “سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة” حديث حسن أخرجه ابن ماجه والحاكم وأحمد.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [عليكم] هو من ألفاظ الإعزاء المُصَرِّحَةِ بالإلزام كما أفاد ذلك القرطبي في المفهم، فحق على كل من فهم عن الله تعالى أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحِقَ بالأبرار، ووصل إلى رضى الغفار، وصلى الله وسلم على النبي المختار، وعلى آله وصحبه الأبرار، والتابعين ومن سار على نهجهم من الأخيار.