فما أوتي كثير من أهل البدع إلا باتباعهم للمتشابه وإعراضهم عن المحكم:
– فهؤلاء الخوارج يتشبثون بمثل قوله تعالى: “وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً” (الجن:23)، معرضين عن قوله تعالى: “إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ” (النساء:116).
– والقدرية يتشبثون بمثل قوله تعالى: “فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ” (الكهف:29)، لإثبات أن الإنسان له مشيئة مستقلة دون أن يردوا مثل هذه الآيات إلى قوله تعالى:”وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (التكوير:29).
-كذلك المشبهة ما ضلوا في باب الصفات إلا باتباع المتشابه 1 والإعراض عن قوله تعالى: “وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً”.
– والمعطلة اشتبه عندهم قوله تعالى: “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ” فنفوا الصفات وتأولوها..
– أما أهل الحق فإنهم ردّوا كل ما تشابه إلى المحكم فصار الكل واضحا بينا.
ومما يجب الإشارة إليه في هذا الصدد أنه ليس في القرآن متشابه مطلق -مما يهم الناس في أمور دينهم ودنياهم وما يتعلق به التكليف-2 ، فلا يمكن أن يكون من ذلك ما يخفى على كل الناس، فهذا ينافي حقيقة هذا الكتاب العظيم الذي وصفه الله تعالى ذكره بأنه نزل تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نور مبين وفرقان.
9- تسمية السنة حكمة:
وردت السنة باسم الحكمة في عدة آيات من كتاب الله جل وعلا، من ذلك قوله تعالى: “لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ” (آل عمران:164)، وقوله تعالى: “وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً” 3 (النساء:113).
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: “ذكر الله الكتاب وهو القرآن وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يشبه ما قال والله أعلم، لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة، وذكر الله منته على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز والله أعلم أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنة رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس إتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به..” .4
و قال الحسن وقتادة: “الكتاب هو القرآن، والحكمة هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول جمهور المفسرين” 5.
وإنما سميت السنة حكمة -والله أعلم- لأن كل ما حوته هو رأس الحكمة، وكيف لا تكون كذلك وهي والقرآن من مشكاة واحدة، فكلاهما وحي من الله تعالى، قال جل ذكره: “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” (النجم:3-4). روى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: “كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبر جبريل عليه السلام بالسنة التي تفسر ذلك”6 .
—————–
1 – فآيات الصفات من المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، لكن هذا فقط من حيث الكيفية، أما المعاني فمعلومة من ظواهر هذه النصوص.
2 – وهناك متشابه حقيقي لا يعلمه إلا الله سبحانه، لكن لا يتعلق به تكليف كحقيقة صفات الله جل وعلا وكنهها.
3 – قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: “ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال وعصمته له، وما أنزل عليه من الكتاب وهو القرآن والحكمة وهي السنة”.
4 – الرسالة للإمام الشافعي (ص:78-79).
5 – الفقيه والمتفقه (ص:103)، نقلا من أصول الفقه الميسر للدكتور شعبان محمد إسماعيل (ص:153).
6- صحيح جامع بيان العلم وفضله (ص:487)، مكتبة ابن تيمية.