قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فالحكمة العظمى والغاية القصوى من فرض الصيام تحقيق التقوى لما فيه من امتثال الأمر واجتناب النهي، ومن وجوه تحقيق التقوى في هذا الشهر المبارك أن المسلمين يقبلون على الطاعة بشتى أنواعها، فنجد المساجد مليئة بالمصلين حتى في صلاة الفجر التي اعتاد أغلب المسلمين التهاون بشأنها والتكاسل عنها، ونجد الناس يقبلون على كتاب الله تعالى الذي ألف أكثرهم هجره في غير رمضان، وتقل الغيبة والنميمة والقيل والقال بين صفوف النساء والرجال.
ولا يسعنا ونحن نرى هذه الأمور التي تثلج الصدور إلا أن نقول: “الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات”.
لكن ماذا بعد رمضان، وهل التقوى خاصة بهذا الشهر دون غيره؟
لا ريب أن الجواب بالنفي، لأن التقوى وإن كانت غاية الصيام وثمرته فهي في حد ذاتها غاية الغايات.
قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ}، فكيف تكون التقوى خاصة برمضان وهي وصية الله عز وجل للأولين والآخرين، إذن فهي غاية في ذتها، أما ربطها بالصيام فبيان لما يفعله في النفس من زرع التقوى في القلب وتثبيت أصلها.
إذا كان الأمر كذلك فلماذا تغير الحال بعد رمضان، ولماذا عادت حليمة إلى عادتها القديمة كما يقال؟
فالقرآن عاد مهجورا كما كان، والمساجد افتقدت أغلب المصلين الذين كانوا يواظبون على حضورها في شهر الغفران وخاصة في صلاة الفجر لا يكاد الصف الواحد يكتمل في بعض المساجد، والخمور قد انتشرت والفواحش قد فشت.. والله المستعان.
وهنا يحق لكل عاقل أن يتساءل: ما السر في هذا التغير، وما السبب وراء هذا التحول؟
الجواب يكمن في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فوالله لو حققنا هذه الثمرة -التقوى- كما ينبغي واعتنينا بها وبحفظها لكان حالنا في سائر الشهور كحالنا في رمضان أو أفضل.
فتحقيق التقوى يجب أن نعتبره كالميزان، فمن أراد منا أن ينظر في صيامه هل بورك له فيه، فلينظر في نفسه إذا خرج رمضان هل ازداد في التقوى والطاعة ومراقبة الله ومعرفته أم العكس؟
قال بعض السلف: “إن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها ومن جزاء السيئة السيئة بعدها”.
فلينظر كل منا إلى حاله وليعلم أن الله عز في علاه لا يظلم مثقال ذرة، وأن الواحد منا إذا أقبل على معصية الرحمن وطاعة الشيطان بعد شهر الغفران فإن ذلك بسبب ما كسبت يداه كما قال تعالى: “قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ”.
قال الصديق رضي الله عنه للناس عند موت النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”.
ولا يسعني أن أقول لمن يقبل على الطاعة في رمضان ثم ينقلب على عقبيه بعد هذا الشهر المبارك، إلا نحو ما قال: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد ولى، ومن كان يعبد الله فإنه حي لا يموت.
فلنرجع إخواني أخواتي إلى الله عز وجل رجوعا حقيقيا {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، ولنعلم أن رب رمضان هو رب سائر الأزمان وأن تحقيق العبودية غاية في ذاتها لا تخص مكان دون مكان و لا زمان دون زمان، كيف لا وربنا يخبر عن الحكمة من خلق الثقلين فيقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، ويقول جل وعلا في كتابه الحكيم آمرا نبيه عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.