الاحتكار
عن سعيد بن المسيب، عن معمر بن أبي معمر أحد بني عدي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحتكر إلا خاطئ” فقيل لسعيد فإنك تحتكر؟ قال سعيد: “إن معمرًا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر” (رواه مسلم).
من مسائل الباب:
* المسألة الأولى: مفردات الحديث
(لا يحتكر): الاحتكار والحكرة حبس السلع عن البيع (وسيأتي لذلك مزيد بيان عند ذكر مذاهب أهل العلم في الاحتكار المحرم).
(إلا خاطئ): الخاطئ بالهمز: العاصي الآثم.
* المسألة الثانية: مذاهب أهل العلم في الاحتكار المحرم
قول محمد بن عمرو بن عطاء لسعيد بن المسيب: فإنك تحتكر، وقول سعيد: إن معمرا الذي كان يحدث هذا الحديث كان يحتكر.
قال الخطابي: هذا يدل على أن المحظور منه نوع دون نوع، ولا يجوز على سعيد بن المسيب في فضله وعلمه أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ثم يخالفه كفاحا وهو على الصحابي أقل جوازا وأبعد مكانا، وقد اختلف الناس في الاحتكار؛ (مذهب مالك) فكرهه مالك والثوري في الطعام وغيره من السلع، وقال مالك: يمنع احتكار الكتان والصوف، والزيت، وكل شيء أضر بالسوق إلا أنه قال: ليست الفواكه من الحكرة.
(مذهب أحمد) قال أحمد بن حنبل: ليس الاحتكار إلا في الطعام خاصة لأنه قوت الناس، انتهى كلام الخطابي رحمه الله.
(مذهب الشافعي) قال النووي في شرح صحيح مسلم : “وهذا الحديث (يعني قوله صلى الله عليه وسلم: لا يحتكر إلا خاطئ) صريح في تحريم الاحتكار، قال أصحابنا: الإحتكار المحرم هو الإحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلو ثمنه، فأما إذا جاء من قريته أو اشتراه في وقت الرخص وادخره أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته، فليس باحتكار، ولا تحريم فيه، وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال هذا تفصيل مذهبنا. انتهى كلام النووي رحمه الله.
(مذهب أبي حنيفة): وأما مذهب أبي حنيفة فكمذهب الشافعي فإنهما حملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه. كما حكى الشوكاني ذلك عنهما في نيل الأوطار .
المسألة الثالثة: ما رجحه الإمام الشوكاني في هذه المسألة:
قال رحمه الله في (نيل الأوطار): والحاصل أن العلة إذا كانت هي الإضرار بالمسلمين لم يحرم الاحتكار إلا على وجه يضربهم، ويستوي في ذلك القوت وغيره لأنهم يتضررون بالجميع .
وقال في السيل الجرار: “..فهو يشمل كل ما يتضررون باحتكاره وتدعو حاجتهم إليه، وإن كان التضرر باحتكار الطعام أكثر لمزيد الحاجة إليه، ويدخل في ذلك قوت الدواب” .
المسألة الرابعة: هل من الاحتكار المحرم شراء السلع من الطعام وغيره عند رخصها وادخارها إلى وقت حاجة الناس إليها؟
قال السبكي: الذي ينبغي أن يقال في ذلك: إنه إن منع غيره من الشراء وحصل به ضيق حرم، وإن كانت الأسعار رخيصة وكان القدر الذي يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه معنى.
قال القاضي حسين والروياني: وربما يكون هذا حسنة لأنه ينفع به الناس، وقطع المحاملي في المقنع باستحبابه .
المسألة الخامسة: عقوبة المحتكر عند السادة المالكية:
جاء في كتاب أحكام السوق للإمام أبي زكريا يحيى بن عمر بن يوسف الكناني الأندلسي: قال أحمد بن محمد بن عبد الرحمن: وسمعت يحيى بن عمر يقول في هؤلاء المحتكرين إذا احتكروا الطعام، وكان ذلك مضرا بالسوق: أرى أن يباع عليهم فيكون لهم رأس أموالهم، والربح يؤخذ منهم، ويتصدق به أدبا لهم (أي تأديبا لهم) وينهوا عن ذلك، فإن عادوا كان الضرب والطواف والسجن لهم . وبالله التوفيق.