مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: “اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أدرت (أردت) في الناس فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون” حديث صحيح ثابت من حديث معاذ بن جبل وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهما في قصة طويلة، أخرجه أحمد والترمذي وابن أبي عاصم في السنة.
الغريب
أدرت: بتقديم الدال على الراء من الإدارة يعني: أوقعت.
هذا دعاء عظيم من أجمع الأدعية وأكملها وقد سألها سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، ليعلمنا ويرشدنا إلى هذا السلاح الفتاك الذي ما فتئ المسلمون يجنبونه معاركهم، ظانين أن الغلبة لا بد لها من أسلحة مادية ملموسة، ناسين أو متناسين أن السلاح بضاربه لا بحده فقط، ولا أريد في هذه العجالة أن أضرب الأمثلة لكثرتها، ولكن بحسبي أن ألفت النظر إلى هذه الكلمات الجوامع التي تعتبر فواتح خير على الأمة إن هي وقفت عند عتبتها ولزمت أصولها، فإن الحسنة تجر الحسنة، والسيئة تجر السيئة، والسعيد من وعظ بغيره.
ففعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، كل ذلك من أسباب العزة والنصرة والتمكين، وأذكِّر هنا بأن القلة والاستضعاف لا ينبغي أن تكون سببا في تكالب الأعداء على هذه الأمة، بل عليها أن تتذكر قول ربها سبحانه وتعالى: “وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ” فتعتبر به، ومن العبرة في هذه الآيات -يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله- “أنها حجج تاريخية اجتماعية على كون الإسلام إصلاحا أورث ويورث من اهتدى به سعادة الدنيا والسيادة والسلطان فيها قبل الآخرة، ولكن أعداءه الجاحدين لهذا على علم قد شوهوا تاريخه وصدوا الناس عنه بالباطل، وأن أهله قد هجروا كتابه وتركوا هدايته وجهلوا تاريخه، ثم صاروا يقلدون أولئك الأعداء في الحكم عليه حتى زعموا إنه هو سبب جهلهم وضعفهم وزوال ملكهم الذي كان عقوبة من الله تعالى لخلفهم الطالح على تركه بعد تلك العقوبة لسلفهم الصالح على الفتنة بالتنازع على ملكه، فإلى متى أيها المسلمون؟ إنا لله وإنا إليه راجعون” اهـ
وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم حب المساكين في إشارة إلى أسباب تزكية النفس وتربيتها، إذ الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، والإيمان شرط في النصر، والنصر من الله تعالى: “إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ”، وقال تعالى: “وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ”، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح : “إنما تنصرون بضعفائكم” أي: بدعائهم، كما فيه أيضا الإحساس بالقاعدة البشرية الفقيرة وهم أتباع الرسل، كما في قوله تعالى: “قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ”، وبالجملة فإن محبة المساكين توجب صلاح القلب والقالب.
ثم تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن، لأن الفتن إذا أقبلت أتت على اليابس والأخضر، وكثيرا ما يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والفتنة هي أشد من القتل سيما إن تعلقت بالدين كالكفر والبدع والفسوق.
فاللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وقد ختم هذا الحديث كما في الترمذي بقوله صلى الله عليه وسلم: “إنه حق فادرسوها تعلموها، فما أحوج الأمة إلى هذه الدراسة وهذا العلم في وقت قد تكالب الأعداء عليها من كل صوب وحدب، فاللهم رحماك.