رفع الالتباس عن أمر مخالطة وعزلة الناس

وقع الخلاف بين السلف والخلف في العزلة والمخالطة وأيتهما أفضل وأسلم مع أن كل واحدة منهما لا تنفك عن فوائد وغوائل.

فذهب طائفة إلى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة، منهم سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض في آخرين، واستدلوا على ذلك ببعض الأدلة من أشهرها قوله عليه الصلاة والسلام لما سأله عبد الله بن عامر الجهني قائلا: “يا رسول الله ما النجاة؟ قال: “أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك” سلسلة الأحاديث الصحيحة.
وذهب طائفة ثانية إلى تفضيل المخالطة على العزلة، منهم الشعبي وابن عيينة وابن المبارك والشافعي وأحمد ومال إليه سعيد بن المسيب في آخرين، واستدلوا على ذلك ببعض الأدلة من أشهرها الآيات والأحاديث المعلومة التي تأمر بالإعتصام بجماعة المسلمين، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام: “الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على آذاهم” سلسلة الأحاديث الصحيحة.
والمتأمل والناظر يظهر له أنه لا خلاف في الحقيقة بين القولين ذلك لأن الأصل شرعا هو الخلطة ومشاركة الناس والاجتماع معهم في الخير وفيا ينفع في أمر الدين والدنيا، لا في الشر وفضول المباحات لأن الواجب في هذا الأخير والذي ينبغي في حقه: العزلة.
وعليه فمن فضل من السلف المخالطة على العزلة نظر إلى المخالطة في الخير وهذا هو الأصل، ومن فضل العزلة على المخالطة نظر إلى المخالطة في الشر وفي فضول المباحات، كما بينه غير واحد من أهل العلم كالخطابي في كتابه العزلة وابن القيم في المدارج في آخرين.
قال الخطابي رحمه الله: “والطريقة المثلى في هذا الباب ألا تمتنع من حق يلزمك للناس وإن لم يطالبوك به، وألا تنهمك لهم في باطل لا يجب عليك إن دعوك إليه، فإن من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه، ومن انحل في الباطل جمد عن الحق، فكن مع الناس في الخير وكن بمعزل عنهم في الشر، وتوخ أن تكون فيهم شاهدا كغائب، وعالما كجاهل” العزلة 237.
وقال ابن القيم رحمه الله: “فأما ما تؤثره كثرة الخلطة: فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يَسْوَد ويوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما وضعفا وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء وإضاعة مصالحه والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟.
هذا وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ودفعت من نعمة؟ وأنزلت من منحة وعطلت من منحة وأحلت من رزية وأوقعت في بلية؟ وهل آفة الناس إلا الناس؟ وهل كان على أبي طالب عند الوفاة أضر من قرناء السوء لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد؟
وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا وقضاء وطر بعضهم من بعض تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة ويعض المخلط عليها يديه ندما كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} وقال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} وقال خليله إبراهيم لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} وهذا شأن كل مشتركين في غرض يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله فإذا انقطع ذلك الغرض أعقب ندامة وحزنا وألما، وانقلبت تلك المودة بغضا ولعنة وذما من بعضهم لبعض، لما انقلب ذلك الغرض حزنا وعذابا كما يشاهد في هذه الدار من أحوال المشتركين في خزية إذا أخذوا وعوقبوا، فكل متساعدين على باطل متوادين عليه: لا بد أن تنقلب مودتهما بغضا وعداوة.
والضابط النافع في أمر الخلطة: أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة والأعياد والحج وتعلم العلم والجهاد والنصيحة ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات فإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر ولم يمكنه اعتزالهم: فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم فإنهم لا بد أن يؤدوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر، ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له وتعظيم وثناء عليه منهم ومن المؤمنين ومن رب العالمين وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له ومقت وذم منهم ومن المؤمنين ومن رب العالمين” المدارج 1/489-490.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *