من فقه البيوع النوع الثاني من البيوع المحرمة: بيوع الغرر (الحلقة السادسة) بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها ياسين رخصي

سبق أن بيع الثمار قبل بدو صلاحها داخل في بيوع الغرر، وذلك أنها تكون في هذا الوقت عرضة للجوائح، وأيضا فإن ذلك مظنة لحصول الخصومة والنزاع بين البائع والمشتري.

وهذا الحكم أحد ثلاث مسائل، ذكرنا منها اثنتين:
الأولى: حكم بيع الثمار قبل بدو صلاحها.
والثانية: علامة بدو صلاح الثمرة.
وبقي الكلام عن المسألة الثالثة، وهي: وضع الجوائح.
وقبل ذلك نذكر -إتماما للفائدة- بحثا له صلة بما مضى وهو:
هل يدخل في بيع الغرر بيع المغيبات المغروسة في بطن الأرض كاللفت، والجزر، والفجل، والثوم، والبصل، وشبه ذلك؟
والجواب: ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع فتاويه: “وأما بيع الجزر واللفت والقلقاس، ونحو ذلك، ففيه قولان مشهوران:
أحدهما: لا يجوز حتى يقلع، بناء على أنه مغيب لم يُرَ ولم يُوصف؛ كسائر الأعيان الغائبة التي لم تر، ولم توصف. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور من مذهب أحمد.
والثاني: أنه يجوز بيعه إذا رأى ما ظهر منه على الوجه المعروف، وهذا قول مالك، وقول في مذهب أحمد. وهذا أصح القولين، وعليه عمل المسلمين قديما وحديثا، ولا تتم مصلحة الناس إلا بهذا؛ فإن تأخير بيعه إلى حين قلعه، يتعذر تارة ويتعسر أخرى، ويفضي إلى فساد الأموال.
وأما كون ذلك مغيبا فيكون غررا، فليس كذلك، بل إذا رؤي من المبيع ما يدل على ما لم ير، جاز البيع باتفاق المسلمين؛ في مثل بيع العقار، والحيوان. وكذلك ما يحصل الحرج بمعرفة جميعه يكتفى برؤية ما يمكن منه، كما في بيع الحيطان. وما مأكوله في جوفه والحيوان الحامل، وغير ذلك، فالصواب جواز بيع مثل هذا. والله أعلم”(1).
وقال في موضع آخر: “… هذا ليس من الغرر، بل أهل الخبرة يستدلون بما يظهر من الورقة على المغيب في الأرض، كما يستدلون بما يظهر من العقار من ظواهره على بواطنه، ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك”(2).
وقال ابن القيم رحمه الله: “فإن في المنع من بيع ذلك (يعني المغيبات في الأرض) حتى تقطع أعظم الضرر والحرج والمشقة، مع ما فيه من الفساد الذي لا تأتي به شريعة، فإنه إن قلعه كله في وقت واحد تعرض للتلف والفساد، وإن قيل كلما أردت بيع شيء منه فاقلعه، كان فيه من الحرج والعسر ما هو معلوم، وإن قيل اتركه في الأرض حتى يفسد ولا تبعه فهذا لا تأتي به شريعة”(3).

– المسألة الثالثة: وضع الجوائح
أما وضع الجوائح فالأصل في ذلك ما رواه مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق”، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم “أمر بوضع الجوائح”.
والجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد، مثل الريح، والبرد، والحر، والمطر، والجليد، والصاعقة، ونحو ذلك.
فإن كانت الآفات ممن لا يمكن تضمينه من الآدميين كالجيوش التي تنهب، واللصوص التي تخرب وما أشبه ذلك، فعلى وجهين عند أهل العلم:
أحدها: ليست جائحة لأنها من فعل آدمي.
والثاني: أنها جائحة، وهو مذهب مالك(4).

مسألة: هل وضع الجوائح خاص بما بيع من الثمار بعد بدو الصلاح؟ أم أنه يعم ما بيع قبل بدو الصلاح وبعده؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين: فذهب طائفة إلى أن وضع الجوائح خاص بما بيع من الثمار بعد بدو الصلاح، وبنوا ذلك على أن ما بيع قبل الصلاح بيع فاسد فلا يكون معه وضع؛ وذهب آخرون إلى أن وضع الجوائح يعم ما بيع قبل الصلاح وبعده، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قال رحمه الله: “ما تلف من ذلك فهو من ضمان البائع، سواء كان صحيحا أو فاسدا، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك من ثمنها شيء، بم يأخذ أحدكم مال أخيه””(5).

مسألة: هل ضمان ما تصيبه الجوائح على البائع أم المشتري؟
اختلف العلماء في ذلك أيضا على قولين، فذهب طائفة إلى أن ما تصيبه الجوائح يكون من ضمان المشتري، وذهب آخرون إلى تضمين البائع، واحتجوا لهذا القول بحديث جابر المتقدم، وممن نص على هذا القول شيخ الإسلام كما في المسألة السابقة، ونصر هذا القول أيضا الإمام الشوكاني، لحديث جابر المتقدم الذي دلَّ على تضمين البائع، وأجاب عن أدلة من قال بتضمين المشتري كما تراه مبسوطا في “نيل الأوطار”(6).
والله الموفق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- مجموع الفتاوى (29/486-487).
2)- المصدر السابق (29/488).
3)- إعلام الموقعين، بتحقيق مشهور آل سلمان (5/400).
4)- أنظر الفتاوى (30/278).
5)- مجموع الفتاوى (29/494).
6)- أنظر نيل الأوطار (4/51-52).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *