• الدُرَّة المنتقاة:
عن عُمَرُ بْن ُ الْخَطَّابِ يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ نَبِي اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً».
أخرجه أحمد (1/30،52)، وابن ماجه (4164)، والترمذي (2344)، وقال: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ”، وصححه الألباني رحمه الله.
• تأملات في الدُّرة:
في هذه الدرة النبوية يدعونا النبي صلى الله عليه وسلم إلى حسن التوكل على الله في طلب الرزق مع الأخذ بالأسباب المشروعة، ليرزقنا تعالى كما يرزق الطيور الهزيلة بالأسباب القليلة: الغدو والرواح.
وحقيقة التوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله، مع الأخذ بالأسباب المشروعة الممكنة، وحصول اليقين التام بكفايته، قال تعالى: “وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ” (الطلاق3)، أي: فهو كَافِيه.
فـالتوكل إذاً: “حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير، والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتمادا عليه، وتفويضا إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقينا بكفايته” (مدارج السالكين1/82، وينظر أيضا جامع العلوم الحكم 1/436).
• وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة النبوية من الفوائد:
1 ـ وجوب التوكل على الله في طلب الرزق، وفي غير ذلك من مصالح الدنيا والآخرة، ولهذا أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: “وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً” (الفرقان58)، وقال سبحانه: “فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” (آل عمران159). وكذلك جميع الرسل كانوا يتوكلون على الله في دعوتهم، ويقولون لأقوامهم: “وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ” (إبراهيم:12).
2 ـ الأخذ بالأسباب من التوكل على الله، يدل على ذلك غدو الطير ورواحها في طلب رزقها، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: “حقيقة التوكل القيام بالأسباب، والاعتماد بالقلب على المُسَبِّب” (مدارج السالكين 3/499).
فالأخذ بها لا يُنافي التوكلَ، فرسول الله سيِّدُ المتوكِّلين، وقد دلت سنته القولية والفعلية على وجوب الأخذ بالأسباب، فمن السنة القولية: قوله صلى الله عليه وسلم: “احرص على ما ينفعك، واستعن بالله” (صحيح مسلم 2664)، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله بالاستعانة به. ومن السنة الفعلية: أخذه صلى الله عليه وسلم بالأسباب في هجرته إلى المدينة، بالتزود وتوفير الراحلة، واختفائه في الغار مع صاحبه إلى حين توقف الطلب، واتخاذه خِرِّيتا (دليلا يدله على الطريق) ليسلك به طريقا غير الطريق المعهودة، ولبس يوم أحد درعين، ودخل مكة وعلى رأسه المغفر؛ ليعلم أمته الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب.
قال ابن رجب الحنبلي: “..واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ”(النساء71)، وقال تعالى: “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ” (الأنفال60 )، وقال: “فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ” (الجمعة10)، وقال سهل التستري: “من طعن في الحركة -يعني في السعي والكسب- فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والكسب سنته، فمن عمل على حاله، فلا يتركن سنته”… قال يوسف بن أسباط: “يقال: اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب له ” (جامع العلوم والحكم 1/437).
فالواجب على العبد أن يبذل ما استطاع من الأسباب في تحصيله ما ينفعه مع تعلق القلب بالله، وبهذا يحقق العبد التوكل على الوجه الأكمل، وبذلك يحقق كمال العبودية لله بالخضوع لأوامره الشرعية والكونية، وذلك أن في اعتماد القلب على الله امتثالا لأمره بالتوكل عليه وتفويض الأمر إليه، وفي بذل الأسباب خضوعا لأوامره الشرعية بامتثال أمره بالأخذ بالأسباب، وخضوعا للسنن الكونية التي سنها الله تعالى حيث ربط الأسباب بالمسبَّبَات، فمن ترك التوكل واعتمد على الأسباب فقد قصر في تحقيق عبودية اعتماد القلب على الله، ومن ترك الأسباب وزعم الاعتماد على الله فقد قصر في تحقيق عبودية الامتثال لأمر الله، وقصر في تحقيق عبودية الخضوع لسنن الله الكونية، ومن جمع بين الأمرين فقد حاز الحسنيين، وفاز بالدخول في زمرة المتوكلين.