ْ- الدُرَّة المنتقاة:
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”. متفق عليه.
– تأملات في الدُّرّة:
في هذا الحديث النبوي يشبّه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين الصادقين بأعضاء الجسد الواحد فيما بينهم من روابط المحبة والتراحم والتضامن، بحيث إذا نزلت بأحدهم نازلة، أو أصابته مصيبة تألّموا جميعا لألمه، وتداعوا لنجدته، كما يَأْلَم سائرُ الجسد إذا أُصيب عضوٌ من أعضائه، ويتضامن معه بالسهر والحمّى ليلاً ونهارًا، فلا يهنأ بنوم، ولا تقر له عين، حتى يرتفع ما نزل به.
– وَمَضَاتُ الدُّرّة:
في هذه الدرّة من الفوائد:
1. مشروعية ضرب الأمثال توضيحًا للمقال، ورفعًا لكل لَبس أو إشكال.
2. في هذا المثل النبوي: المشبّه هم المؤمنون، والمشبّه به هو أعضاء الجسد الواحد، ووجه الشبه هو ذلك الترابط والتضامن بين أعضائه عند نزول البلوى.
3. أن المؤمنين في ترابطهم كأعضاء الجسد الواحد، وفي هذا تنبيه إلى آصرة الأخوة الإيمانية، ودعوة إلى الوحدة وتجنب الفرقة، وقد جاءت في ذلك آيات وأحاديث نبوية تترى، منها قوله تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ” (الحجرات 10)، وقوله: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ” (آل عمران 103)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا” (متفق عليه)، وقوله: “وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا” (متفق عليه)، وفي رواية مسلم: “كَمَا أَمَرَكُم اللهُ”.
4. التحابّ والتوادّ من أوصاف المؤمنين الكُمّل، وهذا يدل على أن هذه الأوصاف شرطٌ في كمال الإيمان، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ” (مسلم).
5. التراحم والتعاطف من أوصاف المؤمنين الصادقين، كما قال تعالى في وصف الصحابة الكرام: “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ” (الفتح 29).
6. الدعوة إلى التآزر والتعاون على الخير بين المؤمنين آناء الليل والنهار، وهذا ارتقاء من عمل القلب (التوادّ والتراحم والتعاطف) إلى ما يقتضيه ويستلزمه من عمل اللسان والجوارح (التداعي، والتآزر، والتعاون)، وفي ذلك يقول تعالى: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ” (المائدة 2)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ. مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ. وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (متفق عليه).
7. ضياع مفهوم الجسد الواحد في واقع الأمّة الإسلامية، فترى بعض بلاد الإسلام تنزف دما وتتلوّى ألما بسبب تكالب الأعداء من الداخل والخارج؛ وترى بلادا إسلامية أخرى تتمايل فرحا وطربا، وتنظم الحفلات والمهرجانات الغنائية، وهذا يدل على أحد أمرين:
– إما أن جسد الأمة قد أصيب بمرض يتلف العصب، ويعطل الحس، بحيث صار لا يشعر بآلام أطرافه وأعضائه.
– وإما أن هذا الجزء الذي لا يشعر بآلام الأعضاء المصابة قد انفصل عن جسد الأمة، بحيث صار مستقلا بنفسه، غير تابع لأصله.
وأي الأمرين كان فإن أحلاهما مر، فأما إذا كانت الأولى فإن جسد الأمة سيحتاج إلى علاج يعيد العافية إلى ما تلف من أعصابه، وأما إذا كانت الأخرى فإن الجزء المنفصل عن جسد الأمة سيحتاج إلى عملية جراحية مستعجلة تعيده إلى جسده ما دامت في الحياة منه بقية.
ولا شك أن شفاء الأمة من هذه الأمراض والأدواء في كتاب ربها، الذي قال -ومن أصدق من الله قيلا؟!- قال سبحانه: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ” (الإسراء 82)، وقال عز وجل: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ”(يونس57-58).