لقد شرع الله العبادات لغايات وليس عبثا ولم تكن عادات تتكرر في اليوم أو الأسبوع أو الشهر أو السنة وإنما هي وسائل لغايات حقيقتها أن يتغير في المرء شيء حتى يكون بحق قد أدى العبادة وأثرت فيه فيكون ذلك دليل صدق في أداء العبادة على الوجه المراد.
فالصلاة الغاية منها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر وهذه نتيجة حتمية للصلاة إنها حقيقة أخبر عنها الحق سبحانه في قوله تعالى “إنَّ الصَّلاَة تَنهَى عن الفَحشَاء والمُنكَر” ولهذا فإذا لم تنه الصلاة عن الفحشاء والمنكر فذاك دليل على أن هذه الصلاة فيها خلل، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: “من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا”.
وأما الزكاة فغايتها أن تطهر العبد من درن المعاصي والسيئات وتعافيه من داء البخل والشح، وليست طريقا للتحكم في رقاب الناس والمن عليهم بما يخرج من زكاة هي حق معلوم لمن تجب في حقهم من الفقراء والمحتاجين، قال تعالى: “خُذ مِن أمْوَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيهِم”.
وأما الحج فقد شرع من أجل أن يربي المسلم على ضبط النفس وترك الانفعال وتعويد اللسان على الكلم الطيب، قال جل ثناؤه “الحَجُّ أشهُرٌ مَعلُومَات فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَج”
ومهما حقق العبد مراد الله من العبادة بأن أداها كما أمر، وحافظ على أركانها وشروطها وضوابطها يبتغي بها وجه الله، تحققت الغاية التي شرعت من أجلها تلك العبادات فيصبح سلوك المؤمن ربانيا، ترى الإيمان في وجهه ويبدو عليه أثر العبادة وإن لم يكن في عبادة، كما قال تعالى في حق الصحابة الكرام الذين هم خير من حقق المراد وتحققت فيهم الغاية فقا “سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ” قال الطبري في التفسير: “الخشوع والهدي والسمت”، فكانوا في حياتهم العامة عليهم أثر الخشوع والتواضع كأنهم في صلاة.
أما عن الصيام والذي حمل العديد من المعاني التي ينبغي أن تبقى متجلية في الحياة دالة على صدق صوم الصائمين، وأنهم كانوا بحق صائمين طائعين أدوا الصيام كما أراده الله لا كما أرادوه هم، ودليل الصدق ذلك أن تتحقق التقوى التي جاءت في قوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” فالتقوى هاته هي التي ينبغي أن يبحث عنها الصائم أثناء صيامه وبعد صيامه، ولينظر كل واحد منا ماذا استفاد من هذا الشهر الكريم الفضيل الذي لا يحرم خيره إلا محروم نعوذ بالله من الحرمان.
فلا شك أن الكثير من المسلمين كان له وصال مع كتاب الله تعالى والذكر والتسبيح والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام والنفقة، والتحلى بالفضائل كل على قدر اجتهاده، فمقل ومكثر يرجو رحمة الله ويخشى عذابه.
فهل سيحافظ كل مسلم على ما اكتنزه وسيبقى ماض متشبت بما عود عليه النفس وهل سيبقى الزاد ـزاد التقوىـ قادرا على أن يمضي به حتى يأتي رمضان القادم فيعيد كرة التزود إلى الآخرة.
غير أن هناك طائفة لم تعبأ برمضان ولم ترفع به رأسا، فهذه خارج السياق لها شأنها وأمرها إلى الله والكلام عنها قد يكون زائدا نسأل الله لهم الهداية.
وطائفة أخرى بدأت رمضان بالطاعة من أول يوم، وشرع هؤلاء بالانسحاب من ثاني يوم كل بحسبه، لأن النفوس لم تستطع أن تتجرد من عاداتها المقيتة وبقيت أسيرة للماضي فك الله أسرها.
لقد ذهب رمضان والناس فريقان، فريق قد ودعه بدمعة أسفا لذهابه مشتاقا لرجوعه، وفريق ودعه بابتسامة فرحا لذهابه ويتمنى ولو لم يعد أبدا.
لقد انتهى رمضان وفريق ازداد وزن جسمه فقط، وفريق ازدادت حرارة إيمانه ودرجة تقواه، وانتهى رمضان وفريق لسان حاله ربنا تقبل منا الصيام وبلغنا رمضان، وفريق لسان حاله.
رمضان ولى هاتها يا ساقي *** مشتاقة تسعى إلى مشتاق
فابحث عن نفسك أين أنت ومع من تكون؟ وحافظ على مكتسباتك بعد هذا الشهر فإنها كنز ليس له ثمن ولا تكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.