هذه مسألة عامة النفع لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير، إما لكونها قبضت ظلما، كالغصب وأنواعه من الجنايات والسرقة والغلول، وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من الربا والميسر، ولا يعلم عين المستحق لها.
أقوال أهل العلم في هذه المسألة
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن هذه الأموال تعطى لأولى الناس بها من الفقراء والمساكين، أو تجعل في مصالح المسلمين وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وابن حزم وعامة السلف رحمهم الله.
القول الثاني: أن هذه الأموال تحفظ مطلقا ولا تنفق بحال حتى يظهر أصحابها كسائر الأموال الضائعة، وهذا قول الشافعي 1رحمه الله.
وثمة قول آخر: أن مصير المال الحرام الذي لا يعلم له مالك هو الإتلاف أو الإحراق أو الإلقاء في البحر أو بين الحجارة، لكن هذا القول قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: وإنما يحكى ذلك عن بعض الغالطين من المتورعة. ثم قال: فهؤلاء تجد منهم حسن القصد وصدق الورع، لا صواب العمل.
وقد استدل الجمهور بأدلة منها:
– 2قول النبي صل الله عليه وسلم في اللقطة: “فإن وجدت صاحبها فارددها إليه وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء” .
قال شيخ الإسلام: بين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللقطة التي عرف أنها ملك لمعصوم، وقد خرجت عنه بلا رضاه، إذا لم يوجد فقد أتاها الله لمن سلطه عليها بالالتقاط الشرعي”3. فكذلك المال الحرام إذا لم يعرف له مالك فإن الفقير مسلط عليه إذا دفع إليه.
واستدلوا من الأثر بما روى البيهقي، عن عبد الله بن مسعود: “أنه اشترى جارية فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن، وبحث 4عنه فلم يجده فتصدق بالثمن وقال: “اللهم هذا عنه إن رضي وإلا فالأجر لي” .
– واستدلوا بما وقع من الإجماع على أن من مات ولا وارث له معلوم أن ماله يصرف في مصالح المسلمين، فكذلك الأموال المحرمة التي جهل أصحابها تصرف إلى الفقراء والمساكين أو تجعل في مصالح المسلمين.
قال شيخ الإسلام: “وكذلك اتفق المسلمون على أنه من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين مع أنه لابد في غالب الخلق أن يكون له عصبة بعيدة، لكن جهلت عينه ولم ترج معرفته فجعل كالمعلوم.. فإن مالا يعلم 5بحال ولا يقدر عليه بحال هو في حقنا بمنزلة المعدوم. فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه” .
– واستدلوا أيضا لما ذهبوا إليه بالمعقول.
قال شيخ الإسلام: “..هذه الأموال لا تخلو إما أن تحبس، وإما أن تتلف، وإما أن تنفق، فأما إتلافها فإفسادها (والله لا يحب المفسدين) وهو إضاعة لها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إضاعة المال، وإن كان في مذهب أحمد ومالك تجويز العقوبات المالية، تارة بالأخذ وتارة بالإتلاف، كما يقول أحمد في متاع الغال، وكما يقوله أحمد ومن يقوله من المالكية في أوعية الخمر ومحل الخمار وغير ذلك. فإن العقوبة بإتلاف بعض الأموال أحيانا، كالعقوبة بإتلاف بعض النفوس أحيانا، وهذا يجوز إذا كان فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما شرع له ذلك…
وأما حبسها دائما أبدا إلى غير غاية منتظرة بل مع العلم أنه لا يرجى معرفة صاحبها ولا القدرة على إيصالها إليه فهذا مثل إتلافها، فإن الإتلاف إنما حرم لتعطيلها عن انتفاع الآدميين بها، وهذا تعطيل أيضا، بل هو أشد منه من وجهين:
أحدهما: أنه تعذيب للنفوس بإبقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به.
الثاني: أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لابد أن يستولي عليها أحد من الظلمة بعد هذا، إذا لم ينفقها أهل العدل والحق، فيكون حبسها إعانة للظلمة، وتسليما في الحقيقة إلى الظلمة، فيكون قد منعها أهل الحق، وأعطاها أهل الباطل، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا فإن من وضع إنسانا بمسبعة فقد قتله، ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله، ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد أعطاهموها، فإذا كان إتلافها حراما وحبسها أشد من إتلافها، تعين إنفاقها، وليس لها مصرف معين، فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله، لأن الله خلق الخلق 6لعبادته وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فتصرف في سبيل الله والله أعلم” .
وبذلك يتبين ضعف قول من قال: إن مصير المال الحرام إذا جهل مالكه أن يحبس حتى يظهر صاحبه، ورجحان قول الجمهور: أن المال الحرام الذي جهل مالكه مصرفه أولى الناس به من الفقراء المساكين أو جعله في مصالح المسلمين.
وبالله التوفيق
———————-
1- أنظر فتاوى شيخ الإسلام 28/594 وفتاوى ابن رشد 1/632
2- رواه أبو داود في كتاب اللقطة وصححه الشيخ الألباني
3- مجموع الفتاوى 28/594
4- رواه البيهقي في السنن الكبرى 6/188
5- مجموع الفتاوى 28/594
6- مجموع الفتاوى 28/592- 596