• عن أبى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ». قَالُوا: بَلَى! قَالَ: «إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ». أخرجه أبو داود (4921)، والترمذي (2509) وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، وكذا صححه الألباني.
• وقد جاء تفسير قوله صلى الله عليه وسلم “الحالقة”، فيما رواه مولى آل الزبير عن الزبير بن العوام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِي الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ..». أخرجه الترمذي 2510 وقال: هذا حديث صحيح، وحسنه الألباني.
هذا الحديث والذي قبله دليل على أن فسادَ ذات البين والبغضاءَ بين المسلمين تحلق الدين؛ وتستأصله كما تحلق الموسى الشعر، وأنه لا يمكن أن تقوم لهذا الدين قائمة، ما دامت هناك بغضاء بين المؤمنين.
ولا غرابة في ذلك فإن الله تعالى، قال: “وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” (الأنفال46)، ولما انهزم الصحابة في غزوة أُحُدٍ قال الله لهم: “وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ” (آل عمران152)، فبَيَّن لهم تبارك وتعالى أن سبب ما لحقهم من الهزيمة هو: التنازع فيما بينهم، ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا مع أنهم خيرُ هذه الأمة بعد نبيها، وأبرُّها قلوبا، وأصدقها إيمانا، وأصحها اعتقادا ويقينا؛ ومع ذلك فإن سنن الله تعالى لا تُحابي أحدا، حتى الصحابةَ الكرام، فكيف بمن جاء بعدهم ممن لم يبلغ قَدْرَهم ولا نَصِيفَه!
فَلْيَعْلَم كُلُّ من دان لله تعالى بعقيدة الصحابة الأبرار، ومن اقتدى بهم من السلف الأطهار أنهم لن يُعيدوا لهذا الدين مجدا تليدا، ولن يرجعوا له عزا ضائعا، ما لم يطردوا الحالقةَ من بين أظهرهم، وليكونوا على بصيرة من أن عقيدتهم السلفية لن تُنْكِيَ لهم عدوا؛ ولن تحقق لهم نصرا وتمكينا، ما لم يشفعوها بالأخوة والمحبة في الله.
ولذلك أولَ ما قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ آخى بين المهاجرين والأنصار، ليُرسي بذالك دعائم دولة الإسلام، التي تهاوت أمامها الدول والإمبراطوريات العظمى، وكيف لا تنتصر أمة شعارها: “وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ” (آل عمران103)، فهذه آية واحدة، بل بعض آية لو أخذ بها المسلمون اليوم لأفلحوا ولنجحوا، وخلاصتها أمران اثنان:
1. الاعتصام بحبل الله، وذلك بالاستمساك بدينه ظاهرا وباطنا، عقيدة وعملا، سلوكا وأخلاقا.
2. الاجتماع وعدم التفرق في الدين.
وفي معناها قوله تعالى: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ” (الشورى13).
فلا بد من الأمرين معا، لا يُغني أحدهما عن الآخر، فلو اجتمعنا على غير دين الله تعالى لم ينفعنا ذلك شيئا، ولو أقمنا دين الله تعالى وتفرقنا فيه لم يغن عنا ذلك شيئا في مواجهة أعداء الدين.
فلا نعجب إذاَ جعل الرسول صلى الله عليه وسلم المحبة في الله بين المؤمنين شرطا للظفر بالجنان، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ » (مسلم).
ولا نعجب كذلك إذا جعل التهاجر بين المؤمنين سببا للخسران ودخول النيران، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ» (أخرجه أبو داود 4916، وصححه الألباني).
فليتق الله قوم امتلأت قلوبهم بالعداوة والبغضاء لإخوانهم في السنة والدين، لا لشيء إلا انتصارا لحظوظ الأنفس الأمارة بالسوء، وطاعة لوساوس الشيطان اللعين، وليعلموا أنهم بفعلهم هذا يحلقون دينهم، ويخذلون دعوتهم، ويُشمتون بهم عدوهم.
ألا وإن من أعظم الأسباب التي تُذكي العداوة والبغضاء بين المؤمنين مجالسُ الغيبة والنميمة، التي يعقدها بعض من لم يدخل الإيمانُ قلبَه(1) انتصارا لأنفسهم، ونِكَاية في إخوانهم، فليتق الله هؤلاء الذين عزت عليهم نفوسهم، وهان عليهم دينهم، وليذكروا قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ». (أبو داود4882 وصححه الألباني).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أي الإيمان الواجب الكامل.