من دُرَرِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ (الحلقة السابعة والعشرون) د. محمد أبوالفتح

الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ». أخرجه أحمد 3/103، وأبوداود 1136، والنسائي 1565، وصححه الألباني.

تأملات في الدُّرة:
يخبرنا أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم إلى المدينة مهاجرا من مكة، وجد لأهل المدينة يومين يلعبون فيهما، ويحتفلون بهما في الجاهلية، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قد شرع لهم عيدين بدلا منهما، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى.

وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة من الفوائد:
1. أنه كانت للمشركين في الجاهلية أعياد يلعبون ويحتفلون فيها، وهذا شأن جميع الأمم من العرب والعجم، والكفار والمسلمين، يجعلون لأنفسهم أعيادا يجتمعون فيها ويلعبون، ولهذا لما طلب فرعون من موسى عليه الصلاة والسلام تحديد يوم يجمعه فيه بالسحرة، قال موسى: “مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى” (طه:59)، فاختار يوم اجتماع الناس لعيدهم، لتقوم عليهم حجة الله جميعا حين يشهدون آياته.
2. أن الإسلام نسخ أعياد الجاهلية ولم يقر شيئا منها، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا…”.
3. أن الإسلام لم يشرع إلا عيدين سَنَوِيَيْن هما عيد الفطر وعيد الأضحى، كلاهما يقع بعد الفراغ من عبادة، ومرتبط بركن من أركان الإسلام، وكلاهما واقع بعد عشرة أيام أو ليال فاضلة، فعيد الفطر بعد التعبد لله بصيام شهر رمضان، والعشرة الأواخر منه أفضل ليال السنة على الراجح لوقوع ليلة القدر فيها، وعيد الأضحى بعد التعبد لله بحج بيته الحرام في شهر ذي الحجة، والعشرة الأوائل منه هي أفضل أيام السنة على الراجح.
4. أن الأصل في الأعياد التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله لعباده، ويدل على ذلك أمور:
– عدم إقراره صلى الله عليه وسلم لشيء من أعياد الجاهلية.
– قوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا…”، ومثل هذا يقال فيما كان الأصل فيه التعبد.
– أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، ومن تبعهم بإحسان من أهل القرون الفاضلة لم يحدثوا عيدا زائدا على ما شرعه الله تعالى.
5. أن الله تعالى لم يجعل يوم مولد نبيه صلى الله عليه وسلم عيدا للمسلمين، ويدل على عدم مشروعية هذا الاحتفال أمور:
– أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم الاحتفال بيوم مولده قط، ولا مرة واحدة في حياته صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان يصوم يوم الإثنين، فإذا سئل عن ذلك، قال: “ذلك يوم ولدت فيه” (رواه مسلم)، فَلِمَنْ أَرَاد التعبير عن فرحه بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر من صيام يوم الإثنين فيتحقق له بذلك أمران:
* الأول: شكر الله تعالى على ما مَنَّ به علينا من مولد وبعثة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: “لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ” (آل عمران164).
* الثاني: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى، كما قال سبحانه: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً” (الأحزاب21).
– أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا باتباعه والتمسك بسنته، ولم يأمرنا بالاحتفال بمولده، فما بال المسلمين تركوا ما أمروا به، وفعلوا ما لم يأمروا به.
– أنه لم يثبت عن أحد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وحَوَارِيِّيه، أنه احتفل بيوم مولده صلى الله عليه وسلم، مع ما كانوا عليه من محبة منقطعة النظير للنبي صلى الله عليه وسلم، جعلتهم يبذلون أنفسهم في الجهاد بين يديه، حتى قال عروة بن مسعود الثقفي لقومه: “أَي قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِي وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ، يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ” رواه البخاري. فلو كان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم خيرا لسبقونا إليه، كما قال الحافظ ابن كثير: “…أما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها” (التفسير 7/277-278).
– أنه لم يثبت الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد من التابعين وأتباعهم من أهل القرون الفاضلة، ولا ثبت عن أحد من أصحاب المذاهب الأربعة المتبعة (أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد)، حتى جاءت الدولة الشيعية الفاطمية في مصر، فهم أول من أحدث الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم.
– أن النبي صلى الله عليه وسلم أَجَلُّ في قلوبنا من أن نجعل له يوما واحدا من السنة نتذكره فيه، بل علينا أن نجعل حياتنا كلها فرحا بمولده وبعثته صلى الله عليه وسلم، وذلك بإحياء سنته، والوقوف عند أمره ونهيه، واتباع ما جاء به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *