من فقه البيوع النوع الثاني من البيوع المحرمة بيوع الغرر: الحلقة الحادية عشرة نهي المشتري عن بيع ما اشتراه قبل قبضه ياسين رخصي

نتابع في هذه الحلقة ذكر الأحاديث التي تنهى المشتري عن بيع ما اشتراه قبل قبضه، وقد مضى في الحلقة الماضية ذكر حديثين في هذا المعنى، ونقلنا بعض كلام أهل العلم في ذلك، ومنه ما ذكر ابن القيم في بيان علة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع السلع حيث تبتاع قبل أن يحوزها التجار إلى رحالهم، فقال رحمه الله: “.. وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جحد البائع البيع، وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيه، فيغره الطمع وتشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع، وأكد هذا المعنى بالنهي عن ربح ما لم يضمن، وهذا من محاسن الشريعة وألطف باب لسد الذرائع”(1).

وهذا أمر ابتلي به كثير من التجار، فتجد الواحد منهم يشتري السلع من أصحابها ولا ينقلها، فإذا أراد بيعها باعها حيث اشتراها، فيقع ما نبه عليه ابن القيم رحمه الله من المحذور.
الحديث الثالث: عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ويقبضه”(2).
الحديث الرابع: عن طاوس قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: “أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو الطعام أن يباع حتى يقبض. قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله”(3).
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: “ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام (أي: اختصاص النهي عن بيع الشيء قبل قبضه بالطعام) واحتج باتفاقهم على أن من اشترى عبدا فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز، قال: فالبيع كذلك. وتعقب بالفارق، وهو تشوف الشارع إلى العتق. وقول طاوس في الباب قبله: “قلت لابن عباس كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ” معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهي فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم.
ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم “قال طاوس قلت لابن عباس: لم؟ قال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ” أي فإذا اشترى طعاما بمائة دينار مثلا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين وقبضها والطعام في يد البائع فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارا، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام، ولذلك قال ابن عباس: “لا أحسب كل شيء إلا مثله” ويؤيده حديث زيد بن ثابت: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم” أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان”(4).
الحديث الخامس: عن جابر قال: “نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري”(5).
الحديث السادس: قال البخاري: ويذكر عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا بعت فَكِلْ وإذا ابتعت فاكْتَلْ”(6).
وذكر الحافظ أن ابن عبد الحكم أورد الحديث في “فتوح مصر” من طريق الليث، ولفظه “أن عثمان قال: كنت أشتري التمر من سوق بني قينقاع ثم أجلبه إلى المدينة ثم أفرغه لهم وأخبرهم بما فيه من المكيلة، فيعطوني ما رضيت به من الربح ويأخذونه بخبري، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا بعت فكِلْ وإذا ابتعت فاكْتَلْ”(7).
في هذين الحديثين -الخامس والسادس- بيان صفة القبض الصحيح فيما يشترى من الطعام مكايلة أو موازنة.
قال الشوكاني رحمه الله: “استُدِل بهذه الأحاديث على أن من اشترى شيئا مكايلة وقبضه ثم باعه إلى غيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وإليه ذهب الجمهور كما حكاه في الفتح عنهم… وهذا إنما هو إذا كان الشراء مكايلة، وأما إذا كان جزافا فلا يعتبر الكيل المذكور عند أن يبيعه المشتري”(8).
وقال الحافظ: “وفي صفة القبض عن الشافعي تفصيل: فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول، وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية، وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وفيه قول إنه يكفي فيه التخلية”(9).
وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- أعلام الموقعين (5/41).
2)- رواه البخاري ومسلم.
3)- رواه البخاري.
4)- فتح الباري (4/442).
5)- رواه ابن ماجه والدار قطني.
6)- رواه أحمد والبخاري معلقا.
7)- فتح الباري (4/436).
8)- نيل الأوطار (4/30-31).
9)- فتح الباري (4/443).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *