شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها “نيل المنى في نظم الموافقات” للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

(مما يتصور به حال الكتاب «الموافقات» للإمام الشاطبي رحمه الله في الأذهان من ملامح تفصيلية):
رابعها: التنبيه والاستحثاث على وجوب اعتبار واستحضار أحوال القلوب ومقاصدها في مجاري بناء الأحكام الفقهية، وذلك لأن القلب تجري على أفعاله الأحكام الشرعية كما تجري على سائر الجوارح، ثم إنه بما قام به من حال وقت كسب العمل بالجوارح يعرف حكم ذلك العمل ومنزلته.
وقد بسط الشاطبي -رحمه الله تعالى- القول في هذا الشأن، فما فتئ ذاكرًا له في كل موضع يتأتى له فيه ذكره، كما بين على تفصيل.
إنّ موافقة قصد المكلف للقصد الشرعي من شرعية الحكم في العمل هو ما به يصح ذلك العمل شرعا، ويكون به التقرب لله رب العالمين، وإن مخالفة قصد المكلف للقصد الشرعي عينا في ذلك مثمر للفساد، والإثم.
وإن ما يكون مخالفا على وجه ليس فيه المخالفة العينية هو محل خلاف ونظر فقهي، فالمدار في الحكم فيه على الترجيح.وبهذا تعرف أحوال القصد المصاحب للعمل، وأحكامه، ولا يخرج قصد عن هذه الأقسام.
وهذا إدراكه يثمر في النفس أمورا منها:
أ- وجوب طلب العلم بالقصد الشرعي على المكلف في كل عمل عزم على إتيانه، حتى يعلم ما يأتي وما يذر من المقاصد التي تعرض في النفس، وتقوم بها.
ب- وجوب إلزام النفس بالموافقة للشرع في ذلك وترويضها عليه.
ج- كسب التبصر بأحكام القصود، وأحوالها والعلم بما يكون الحكم فيه منها معلوما قطعا، وما يكون فيه منها محل اجتهاد، ونظر.
د- استفراغ الجهد في ربط القصد الشرعي بقصد المكلف في العمل والنظر، وجعل ذلك أمرا لا ينفك عن البال في بناء الأحكام والعمل.
والمتأمل لكلام الشاطبي في هذا الكتاب، يجد هذا الأمر من أهم ما يسعى إلى نقل العقول إلى اعتباره والاعتناء بأمره.

خامسها: ضبط سبيل النظر في النصوص الشرعية وأخذ الأحكام منها وذلك بالالتزام والتقيد بحدود اللسان العربي، والانكفاف عن تخطي ذلك.
وهذا أمر قد احتج عليه بما يراه من الأدلة والحجج مثبتا له، غير أن هذا مشعر بتأثر الشاطبي بالظاهرية في هذا الشأن، إذ يلمح في سبيله في هذا الموضوع ضرب من الحَجْر على النظر واتصاف بالجمود.
لكن هذا الحكم الذي يسبق إلى الأذهان في أول النظر إلى هذا الموضوع يزيله ما جرى عليه من البحث عن أسرار الشريعة وعللها ثم ما جرى عليه من منهج في اختياره لهذا الرأي، فإنه ما أتاه إلا عن إطلاع عن الأدلة التي يعتمد عليها في ذلك ونظر تام في قوتها الحجية، ثم لما بدا له أن نظره ما قضى إلا بذلك ذكره. وقد يكون غرضه من ذلك الذي يظهر أنه جمود وحجر على الأنظار هو صد أصحاب الأهواء والضلالة الداعين إلى تخطي ظواهر الألفاظ والأخذ بما يسمونه ببواطنها وأسرارها الخفية التي تدرك بالإشارات التي لا يفهمها إلا ذووا العلم “اللدني” والإلهام.
وهذا أمر محمود، فإن درء المفسدين عن حياض الإسلام وحرمه أمر واجب شرعا.
فالباطنية شرهم عظيم، ومكرهم خبيث، وهم ما فتئوا في كل زمان ومكان يكيدون لهذا الدين.
وهذا الضبط يثمر في النفس لمن عنّ له أنه الصواب إدراك المنهج الموصل إلى أخذ الأحكام من أدلتها على الوجه الصحيح.

سادسها: كشف المعتبرات والمستندات الفقهية لآراء فقهية وتصرفات وأعمال عدت خارجة عن القواعد التي يقتضى حالها جريان حكمها عليها، وعن الأدلة الشرعية الشاملة أحكامها لها. وهذا متجل في مواطن:
أحدها: التوجيهات الفقهية التي يوردها بيانا وحججا على صحة تصرفات وأحوال من يسميهم بأرباب الأحوال -الصوفية-. وقد بنى نظره في هذه الجزئية على أمر اختلاف أحوال النفوس، وخصائص البواطن التي يترتب عليها اختلاف القوة والضعف في إتيان الأعمال، وفي السبل المختار سلوكها في التعبد، فالمسوقون بالخوف أو المحبة أو ما يسهل عليهم مشقة العبادة من رجاء وطمع في نيل درجات التقرب لرب العالمين ومقامات الأبرار يسلكون السبيل الذي يوافق أحوالهم، فذهابهم إلى المشقة واختيار العزائم في مواطن الرخصة المباحة لا يضير أمره، بل هو فعل محمود لأنه لا تترتب عليه أي مفسدة شرعية.
وأما من ليس مثلهم في ذلك وإنما يأتي العبادة امتثالا وحظوظه النفسية غالبة عليه فإنه سلك السبيل الذي يجمع به بين تحصيل حظوظه المباحة، والالتزام بعبادة ربه.
والاعتناء بأمور البواطن واختلافها والأخذ بمقتضاها في بناء الأحكام يستحث الشاطبي -رحمه الله تعالى- على عدم الغفلة عنه فهو موضوع بسط فيه الكلام إذ له به فريد عناية واهتمام للغفلة عن اعتباره والعناية بأمره -كما يرى-.
ثانيها: التوجيه والتخريج الفقهي الذي أورده في شأن ما ذهب إليه المالكية من صحة بيوع وأنكحة فاسدة، والذي بناه على اعتبار ورود وصف آخر على محل الحكم أوجب صحة تلك الأنكحة والبيوع وترتب آثارها.
وهكذا حال المغصوب فإنه قد يملك من جهة تعلق حق الغاصب به بتصرفات له فيه.
ثالثها: إظهاره لوجه صحة نكاح المحلل عند من يرى ذلك، والذي بني على أن السبب الشرعي لا يؤثر فيما يترتب عليه القصد غير الشرعي وغير ذلك مما ذكره في هذا الشأن.
وغير ذلك من المسائل التي وجه آراء أهل العلم فيها، وكان ذلك غامضا إلا على غائص في بحر النظر من أهل العلم مثله.
والاطلاع على هذه التخريجات والتوجيهات الفقهية يثمر في النفس ويودع في الأذهان أن تلك الآراء الفقهية التي قد ترى ساقطة الاعتبار لأنها لا مستند لها، لها في واقع الأمر ما تخرج عليه من الاعتبارات والقواعد الفقهية.
وهذا يذهب الظن السيئ بالقائلين بهذه الآراء من أهل العلم. ثم إنه يروض النفس على احترام الرأي الفقهي إذا كان من عالم، وإن كان يخفى علينا مستنده ودليله. و كذلك يوسع الاطلاع على مدارك الأحكام والاعتبارات الفقهية الدقيقة.
وللبحث بقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *