حقيقة التوكل هي عمل القلب وعلمه، فعمل القلب الاعتماد على الله عز وجل والثقة به، وعلمُه معرفة الله تعالى والإيمان به وتصديق خبره.
وعمل القلب لا بد أن يؤثر في عمل الجوارح والذي هو الأخذ بالأسباب، فمن ترك العمل -أي الأخذ بالأسباب- فهو العاجز المتواكل الذي يستحق من العقلاء التوبيخ والتهجين، ولم يأمر الله تعالى بالتوكل إلا بعد التحرز والأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: “وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ” (آل عمران)، فأمر خليله بالأخذ بالأسباب، وهي الاستشارة في الأمور وتقليب النظر فيها، فإذا اطمأن قلبه وعزمت نفسه عليه توكل على الله في فعل ذلك، فهذا سيد المتوكلين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخل بشيء من الأسباب.. كان بين درعين يوم أحد ولم يحضر الصف قط عرياناً، واستأجر دليلاً مشركاً يدله على طريق الهجرة، وإذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد.
وقد قال عليه الصلاة والسلام للذي سأله: يا رسول الله أعقلها -أي الناقة- وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟! قال صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل”. رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وفي الترمذي أيضا من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً”.
فالواجب علينا أن نفهم التوكل كما فهمه سيد المرسلين وإمام المتقين، وهو اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب.
ضوابط الأخذ بالأسباب
الأخذ بالأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، لا انفكاك لأحد عنه، لكن لا بد له من ضوابط تقي من الوقوع في الشرك الناشئ من تعلق القلب بالأسباب والاعتماد عليها، ومن أهم هذه الضوابط:
1- الاعتقاد بأنها لا تستقل بالمطلوب، بل تُتعاطى من غير ركون إليها، ومع هذا فلها موانع، فإن لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع: لم يحصل المقصود، وهو سبحانه ما شاء كان وإن لم يشأ الخَلْق، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الخلق.
2- ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق، فمن أثبت سبباً بلا علم أو بما يخالف الشريعة كان مبطلاً في إثباته، آثماً في اعتقاده.
3- أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يُتخذ شيء منها سبباً، إلا أن يكون مشروعاً، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الشركية أو البدعية أو نحوها (توحيد الخلاق ص: 169-172).
4- إذا لم يوجد من الأسباب في تحصيل المطلوب إلا سبباً محرماً فلا يجوز مباشرته ولا الأخذ به، وتوحد السبب في حقه في التوكل على الله عز وجل، فلم يبق سبب سواه، فإنه من أقوى الأسباب في حصول المراد، ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق (الفوائد لابن القيم، ص: 86، 87).
5- إن كان السبب مباحاً، نُظر: هل يضعف القيام به التوكل أو لا يضعفه، فإن أضعفه وفرَّق على العبد قلبه وشتت همَّه فترْكه أولى، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى، لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به، فلا تعطل حكمته مهما أمكن القيام بها، لا سيما إذا كان الأخذ بالسبب عبودية لله عز وجل، فيكون العبد قد أتى بعبودية القلب بالتوكل، وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة.
إن القيام بالأسباب على نحو ما سبق هو الذي يحقق التوكل، فمن عطل الأسباب المأمور بها لم يصح توكله، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً، كما أن من عطلها يكون توكله عجزاً أو عجزه توكلاً.