ينبغي للمؤمن أن يسارع إلى امتثال أمر الله تعالى، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتوقف امتثاله للأمر على معرفة الحكمة منه، فكثير من الأحكام الشرعية، لا نعرف لها حكمة، إلا أننا نجزم أن لها حكمة عظيمة أرادها الله تعالى منها، وهذه الأحكام يسميها العلماء: “غير معقولة المعنى أو “تعبدية” كأعداد ركعات الصلوات.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الاغتسال من الجنابة من هذا النوع الذي لا تعقل معناه .
قال السيوطي في الأشباه والنظائر 638: (القول في الأحكام التعبدية: ..منها: أسباب الحدث والجنابة تعبدية، لا يعقل معناه، فلا يقبل القياس، قال بعضهم: ولولا أنها تعبدية لم يوجب المني الذي هو طاهر عند أكثر العلماء غسل كل البدن، ويوجب البول والغائط اللذان هما نجسان بإجماع غسل بعضه) انتهى.
وعليه؛ فلا يقال إن غسل الرأس من الجنابة هو بسبب إفرازات في فروة الرأس، بل يقال: غسل الرأس من الجنابة هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا الله تعالى باتباعه والاقتداء به، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب/21 . وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران/31.
والنوع الثاني من الأحكام: “أحكام معقولة المعنى” وهي التي نعرف الحكمة منها، كتحريم الخمر حفاظاً على العقل والجسم والمال، وتحريم الميتة ولحم الخنزير لأنها مضرة …. وهكذا.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغسل من الجنابة معقول المعنى، فقالوا: إن خروج المني يؤثر في الجسم بشيء من الضعف والكسل والفتور، والاغتسال يعوض ذلك فيبعث في الجسم النشاط.
قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين 2/77-78: ” الاغتسال من خروج المني من أنفع شيء للبدن والقلب والروح، بل جميع الأرواح القائمة بالبدن، فإنها تقوى بالاغتسال، والغسل يخلف عليه ما تحلل منه بخروج المني، وهذا أمر يعرف بالحس، وأيضا فإن الجنابة توجب ثقلا وكسلا، والغسل يحدث له نشاطا وخفة، ولهذا قال أبو ذر لما اغتسل من الجنابة: كأنما ألقيت عني حملا.
وبالجملة: فهذا أمر يدركه كل ذي حس سليم، وفطرة صحيحة، ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب، مع ما تحدثه الجنابة من بُعْد القلب والروح عن الأرواح الطيبة، فإذا اغتسل زال ذلك البعد، وقد صرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته، ويخلف عليه ما تحلل منه، وإنه من أنفع شيء للبدن والروح، وتركه مضر، ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه، وبالله التوفيق.