شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها “نيل المنى في نظم الموافقات” للإمام الشاطبي -رحمه الله- (تقويم الأدلة النظرية والنصية المعتمد عليها في هذا الكتاب) الشيخ مولود السريري

من المنطوق به أن ما أودعه –المؤلف- رحمه الله تعالى في كتابه هذا من أثمار نظره مختلفة مراتبه متفاوتة درجاته من جهة صحته وقوته الحجية، وذلك أمر مدرك بأدنى تأمل في هذه الأثمار، وبدهي أن كل استنتاج ذهني تعرف قوته الحجية ودرجة صحته وضعفه بحال حجية ودلالة ما بني عليه من دليل وبرهان.
وأغلب ما يأتي به -رحمه الله تعالى- من جنى نظره وغلته واضح المأخذ صحيح البرهان، وصور كلامه وطرق احتجاجه في مجاري بنائه للأحكام التي يوردها، وفي سبل استدلاله للمخالف، والموافق يدلك على ذلك، بل يلزمك بالإقرار به، فقد كان يسلك مسلك الجدل في إيراده وإصداره، متكئا في ذلك على القواعد المنطقية في الغالب وسيلة إلى درك تبليغ ما قصد تبليغه مقررا في النفوس، مظهرا أنه لا رأي إلا ما كان عن برهان ودليل، ولذلك مضى على سنن الإستدلال وجلب البراهين على كل رأي أو قول أورده في هذا الكتاب.
ويبلغ في ذلك الذروة بإيراده الاعتراضات والتناقشات في مجاري الاستدلال وإقامة البرهان على الرأي الذي قوله فيه، سواء كان رأيه أو رأي من يخالفه في ذلك، وكل ذلك بإنصاف تام وصبر لأغوار ما فيه البحث والنظر مع جلالة علمية وقدرة فكرية عظيمة، تذهب بك ذات اليمين وذات الشمال بل ترنحك في كل جهات ما فيه النظر من موضوع، وتشغلك بكل محتمل ذهني أو غيره يرد فيه، فتتخطى بذلك ما كان معهودا في بحث ذلك الموضوع في كتب أخرى، وتظفر بفوائد واتساع في النظر ما كنت عليه من قبل اطلاعك على ما رقمه في ذلك -رحمه الله تعالى-.
إلا أن بعضا في ما يستدل به -على نذوره- ضعف يوجب سقوطه وعدم اعتباره في مجاري بناء الأحكام الفقهية، بله الأصولية.
ومن ذلك أحاديث ضعيفة، فقد أورد في مسلك الإستدلال حديث (ائمتكم شفعائكم)، وهو حديث ضعيف كما قال أهل الحديث. وحديث (احذروا الشهوة الخفية العالم يحب أن يجلس إليه) وقد أورده بلفظ غير هذا، وهو حديث ضعيف على كل حال. وحديث (الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر) وهو حديث عد من الموضوعات.
ومن ذلك -أيضا- استدلاله بقصص وحكايات صوفية في مجرى بنائه لبعض الأحكام النظرية وغيرها، ولا يخفى أن هذه الحكايات والقصص ما هي إلا تصرفات بشرية تقدم بالأدلة الشرعية ويحكم عليها بمقتضاها، ولا يصح أن تساق مساق الاستدلال بها، وإن كان ذلك على سبيل الاستئناس، بها في هذا المساق، فتأمل.
ومن ذلك -كذلك- استدلاله بحديث (نحن أمة أمية) على وجوب قصر معاني القرآن على ما يوافق صفة الأمية، بحيث لا يتخطى فيها ذلك، ولا يخفى ما في هذا من الحجر على العقول في مجرى الاستفادة من القرآن الكريم، الذي على قطع وجزم يعلم أن المخاطبين به أنواع وأصناف معارفهم وأفهامهم متفاوتة مختلفة المراتب والأحوال.
وهذا يوجب أن يكون لكل من هذا الكتاب ما به صلاحه، وما يكفيه من المعارف والعلوم، وما يكون موافقا لحاله (كُلاّ نّمِدّ هَـَؤُلآءِ وَهَـَؤُلآءِ مِنْ عَطَآءِ رَبّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبّكَ مَحْظُوراً) وهذا الحديث لا ينتهض حجة على هذا الذي ادعاه من ذلك لأن أقصى ما يدل عليه هو وصف هذه الأمة بهذا الوصف الذي لازمه عدم الكتابة والحساب في ذلك الزمان، وهي وإن كانت كذلك فإنها تأخذ من هذا الكتاب ما في وسعها من علم ومعرفة، وأما الادعاء بأن الحديث يقتضى هذا الحجر، فإنه أمر فيه تخط حدود معاني ألفاظه ومدلولاتها.
ومنه -أيضا- استدلاله بالترك من السلف الصالح للعمل ببعض معاني الألفاظ المطلقات في الكتاب والسنة، وهو ما يبنى عليه منع قراءة القرآن بالإدارة، وما أشبه ذلك.
ومن المعلوم أن الحقيقة الشرعية لا تثبت إلا بالأدلة الكافية في ذلك، وإن أعوز ذلك فإنه يصار إلى المعنى اللغوي في ذلك، ويعمل فيه بالإطلاق في الهيئات والأحوال وكل ما ينطوي تحت اللفظ المطلق، وعلى كل فالمسألة محل نظر، وبحث، ومدار القول فيه على ثبوت الحقيقة الشرعية بذلك وحده وحصولها بذلك وحده منحصرة به أم لا، وبذلك فلابد من إعمال المطلق على تمام لعدم وجود المقيد له.
ومنه ما استدل به على أن القرآن المكي لا يدخله النسخ، وهو قول قال به بعض أهل العلم قبله، ولكن قد ذكر أن ذلك قد وقع فيه في آيات، منها قوله -تعالى- في سورة غافر: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْش وَمَنْ حَوْله يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فإنه ناسخ لقوله تعالى: (ويستغفرون لمن في الأرض).
قال السيوطي: قلت: (أحسن من هذا نسخ قيام الليل في أول سورة المزمل بآخرها، أو بإيجاب الصلوات الخمس، وذلك بمكة اتفاقا)1.
كما ينظر -أيضا- فما استدل به على أن القضايا الجزئية لم ترد في القرآن المكي، فإنه موضع نظر.
ظهور ضعف فيها حسبما يبدو لي. لكن الصحيح المقطوع به أن ذلك كله وما أشبهه لا يقدح في صحة وقوة استنتاجاته -رحمه الله تعالى- وأثمار أنظاره الموردة في هذا الكتاب في الجملة، فإيرادي الكلام على هذا الذي ذكر إنما هو لإتمام الفائدة العلمية فيما ذكر، والتنبيه فقط. وذلك لأن الخطب في ذلك يسهل، لأن إيراده هذه الأحاديث قد يوجه بأنه لا يوردها للاستدلال بها على أمور تعبدية، وإنما يوردها للاستدلال بها على أمور تمهدت في الشريعة، وتقررت بأدلة كافيه فيها أحكامها، فكأنه يوردها للاستئناس بها فقط.
وعلى هذا السنن والمجرى كذلك يوجه ما يورده من قصص وحكايات أرباب الأحوال -الصوفية- فانه -على ما يبدوا- إنما يسوقه للتمثيل، والحديث عن أحوال وأمور لها -على ما يراه- مستندات شرعية صحيحة.
وأما هذه الدعاوى التي ذهب إلى القول بها فإن ذلك كان عن اجتهاد منه، وكونها مرجوحة مقدوحا فيها. وهو ما يفضى إلى الحكم عليه بأنه مخطئ في شأنها، فإن ذلك قد يكون مغتفرا باعتبار أنه من باب ما كان عن اجتهاد، ثم إنه مما لا يخلو من الوقوع فيه الإنسان من الخطأ في مجاري نظره واستنتاجاته من المعارف العلمية الدقيقة الكثيرة.
ثم إن ذلك مغمور فيما أتى به وإذا تقرر هذا، كما تقرر قبله علم على جزم أن ما تضمنه هذا الكتاب من الفوائد العلمية وغلات الأذهان المسلمة من المصنف قوية صلبة البناء والأساس، صحيحة المأخذ والمدرك في الجملة.
إذ هي مبنية على البراهين والحجج القوية المأخوذة من قضايا العقول الضرورية، ومن دلالات الألفاظ الثابتة لغة وشرعا، ومن الاستقراء التي اعتمد عليها في ذلك كثيرا، وفي أغلب أحواله.
ـــــــــــــــــــ
(1) الإتقان في علوم القرآن2/24.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *