المسجد ودوره في المجتمع المسلم طارق برغاني

المساجد أطهر وأشرف البقاع على الأرض، وقد خصها الله تعالى بالذكر في كتابه العزيز لما لها من مكانة هامة في توحيد صفوف المسلمين وجمع كلمتهم وشملهم؛ وإبداء مظاهر القوة والمنعة والتماسك بينهم، وهي مكان لإبراز عقيدة التوحيد لله تعالى وصدق الإيمان به وإخلاص العبادة له عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى: “إِنَّمَا يَعْمُر مَسَاجِد اللَّه مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَأَقَامَ الصَّلَاة وَآتَى الزَّكَاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّه فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ” التوبة:18، ويقول عز من قائل: “وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا” الجن:18.
يقول الإمام الطبري مفسرا هذه الآية: “ولا تشركوا به فيها شيئا، ولكن أفردوا له التوحيد، وأخلصوا له العبادة”. جامع البيان في تأويل القرآن 23/665.
وجزاء من تعلق قلبه فيها عظيم يوم القيامة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: “إِمَامُ عَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُه، َرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” متفق عليه، رواه البخاري (2/144-174) ومسلم:1712، وغيرهما.
وكأن هذا المؤمن لا يجد سكينة روحه ولا طمأنينة نفسه إلا في بيوت الله تعالى، فكان جزاؤه الاستظلال في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله. وكما تعتبر ملازمة المساجد علامة على الإيمان، فهي أيضا برهان على تقوى المرء وخوفه من الله عز وجل.
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “المِسجدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ” رواه الطبراني في الأوسط 7/158 ح: 7149، وقال إسناده حسن؛ انظر صحيح الترغيب:330.
كما أن في اعتياد المساجد والجلوس فيها خير كثير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ستُّ مجالس المؤمنُ ضامنٌ على الله تعالى ما كان في شيء منها: في مسجد جماعة، وعند مريض، أو في جنازة، أو في بيته، أو عند إمام مقسط يُعَّزره ويُوقره، أو في مشهد جهاد” رواه الطبراني في الكبير والبزار وانظر فيض القدير للمناوي، 4/126 وصحيح الترغيب:328.
ويقول صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَاداً؛ الْمَلاَئِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ إِنْ غَابُوا يَفْتَقِدُونَهُمْ، وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ” السلسلة الصحيحة للألباني، رقم:3401.
فالعبد المتعلق بالمساجد يكون دائما في عناية الله وحفظه وعونه وتشتاق الملائكة لرؤيته، بل وتسعى لزيارته وتفقد حاله كلما غاب عن بيت الله تعالى.
وقد حذر الله تعالى كل من عمل على تعطيل دور المساجد ومنع عباد الله من دخولها أو أداء الصلوات فيها؛ أو ساهم في خرابها أو إلحاق أي ضرر بها، كما توعد كل من ساعد أو أعان على ذلك بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.
يقول الله تعالى: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” البقرة:114.
ولبيوت الله وظائف وأدوار عظيمة على مرِّ التاريخ الإسلامي، يشهد على أهميتها ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة، فبمجرد وصوله إلى قباء، على مشارف المدينة، أمر ببناء المسجد ليكون أول خطوة لإرساء دعائم الدولة الإسلامية، وليكون مركزا لتخريج الدعاة والعلماء والمجاهدين. ومن بين الأدوار الرئيسة التي كان لبيوت الله الفضل في أدائها والقيام بها نذكر:

الدور التعبدي: فالمسجد يعتبر أساسا مكانا للصلاة والذكر والتسبيح وتلاوة القرآن، ويمكن القول بأن هذا هو الدور الأهم الذي من أجله تشيد المساجد وتبنى، يقول الله تعالى: “فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ، رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ” النور: 36-37-38.

الدور العلمي : بيوت الله منارات للعلم والتعلم وقد كان للمسجد، على مر التاريخ، الحظ الأوفر في تعليم القرآن الكريم وتحفيظه وتدريس الحديث الشريف وباقي العلوم الشرعية، حتى غدا المسجد مكانا للحلق العلمية والمجالس الدراسية، فألحقت به المكتبات العظيمة وأُنشئت به الأجنحة الداخلية لاستقبال وإيواء طلاب العلم من شتى أنحاء العالم، فصارت المساجد تحمل اسم الجوامع لاتساع دورها العلمي وشموله شتى مناحي الحياة الدينية والدنيوية، ويشهد على ذلك المعالم التي لازالت قائمة إلى يومنا هذا كجامع الأزهر بالقاهرة وجامع القرويين بفاس.

الدور التربوي: للمسجد آدابه الخاصة التي على المسلم أن يتربى عليها ويلتزم بها، فالمسجد مكان شريف وطاهر لابد من احترامه وتوقيره والحرص على نظافته وعلى مظهره اللائق واجتناب كل ما يخل بهذه الآداب، فعلى المسلم قبل الذهاب إلى المسجد أن يتطهر وأن يكون لباسه نظيفا ومحترما، يقول الله تعالى:” لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ” التوبة:108، ويقول عز وجل: “يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” الأعراف:31.
كما عليه أن يصلي ركعتين تحية للمسجد قبل أن يجلس، قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: “إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ”، متفق عليه، وأن يلتزم بالكلام الطيب وبالأخلاق الحسنة داخله.
الدور الدعوي: المسجد منبر من منابر الدعوة إلى الله عز وجل ونشر الدين وتفقيه الناس فيه، ويتمثل هذا الدور الهام في خطب الجمعة وفي حلق العلم والوعظ والإرشاد، وهو ملاذ كل من يريد الاستفسار في أمور دينه والاستفتاء في بعض المسائل الفقهية في أمور العبادات أو المعاملات.
كما أن المساجد خارج بلاد المسلمين لها مسؤولية كبرى في تأدية هذا الدور، من خلال التعريف بالإسلام ونشره والدعوة إليه وتحبيبه إلى قلوب غير المسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة.

الدور السياسي: شمل دور المسجد عبر التاريخ أغلب مناحي حياة المسلمين، ولم يُستثن من ذلك دوره السياسي والعسكري، فقد كان المسجد مكانا لعقد البيعات ومشاورة الرعية؛ ومنطلقا للفتوحات الإسلامية، كما كان مركزا لتكوين المجاهدين، وشحذ هممهم وتقوية عزائمهم، وتعليمهم مبادئ القيادة وحسن التدبير وسياسة الأمور.

الدور الإعلامي: كان للمسجد دور السبق في تبليغ ما استجد من أمور، وفي إيصال المعلومة إلى المجتمع ونشرها، فالنداء إلى الصلاة بالآذان وسيلة مثلى لجمع المسلمين لأداء الفريضة؛ وغالبا ما كان يعقب ذلك خطبة أو اجتماع للإخبار بالجديد، ومن ذلك خطبة النبي صلى الله عليه وسلم حول المسيح الدجال تأكيدا للخبر المستجد الذي جاء به الصحابي الجليل تميم بن أوس الداري رضي الله عنه لما تاه في البحر ورست بهم السفينة عند جزيرة يوجد فيها المسيح الدجال، فرجع تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص عليه الخبر. والحديث في صحيح مسلم:2942.

هذه بعض الوظائف التي كانت تؤديها المساجد في الماضي، إلا أننا وللأسف نجد أن كثيرا من هذه الأدوار قد تم تحجيمها، وصار دور المسجد محصورا في كونه مكانا لأداء الصلوات الخمس فقط.
نسأل الله تعالى أن يعلق قلوبنا بالمساجد؛ ويجعلنا ممن يستظلون بظله يوم لا ظل إلا ظله.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *