من فقه البيوع النوع الثالث من البيوع المحرمة: بيوع الربا (الحلقة الخامسة عشرة) قضايا معاصرة: عقد التأمين بين المشروع والممنوع ياسين رخصي

تعريف عقد التأمين:
إلتزام طرف (ويسمى المُؤَمِّن) لآخر (ويسمى المُؤَمَّن له) بتعويض نقدي يدفعه المؤمِّن للمؤمَّن له أو لمن يُعَيِّنُه، عند تحقق حادث احتمالي مبين في العقد مقابل ما يدفعه له المؤمَّن له من مبلغ نقدي في قسط أو نحوه(1).
وعقد التأمين من العقود الحادثة التي لم تكن موجودة قبل القرن الرابع عشر الميلادي، ولهذا لم يرد بشأنه شيء في الفقه الإسلامي، إلا ما ورد عن ابن عابدين المتوفى عام 1252هـ بشأن التأمين البحري الذي أفتى بتحريمه(2).
أنواع عقد التأمين:
التأمين التجاري: أنظر التعريف السابق.
التأمين التعاوني: وهو عقد يقصد به أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحا من أموال غيرهم، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر(3).
حكم عقد التأمين التجاري:
نظر المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في موضوع التأمين التجاري بجميع أنواعه المختلفة بعدما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه، سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك من الأموال.
حكم عقد التأمين التعاوني:
قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء من جواز التأمين التعاوني بدلا من التأمين التجاري المحرم.
وقد بين مجلس المجمع تحريم عقد التأمين التجاري، دون التعاوني، للأدلة الآتية، وهذا نصها:
الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية، المشتملة على الغرر الفاحش لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد، مقدار ما يعطي، أو يأخذ، فقد يدفع قسطًا أو قسطين، ثم تقع الكارثة، فيستحق ما التزم به المؤمِّن، وقد لا تقع الكارثة أصلاً، فيدفع جميع الأقساط، ولا يأخذ شيئًا، وكذلك المؤمِّن، لا يستطيع أن يحدد ما يعطي، ويأخذ، بالنسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر.
الثاني: عقد التأمين التجاري: ضرب من ضروب المقامرة، لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغُرم بلا جناية أو تسبب فيها، ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطًا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة، كان قمارًا ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) والآية بعدها.
الثالث: عقد التأمين التجاري: يشتمل على ربا الفضل والنساء: فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن، أو لورثته، أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها، فهو ربا فضل والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط، وكلاهما محرم بالنص والإجماع.
الرابع: عقد التأمين التجاري: من الرهان المحرم، لأن كلاًّ منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة، ولم يبح الشرع من الرهان، إلا ما فيه نصرة للإسلام، وظهور لأعلامه بالحجة والسنان، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله: “لا سبقَ إلاَّ في خُفٍّ أو حَافَرٍ أو نَصْلٍ”. وليس التأمين من ذلك ولا شبيهًا به فكان محرمًا.
الخامس: عقد التأمين التجاري: فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ المال بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم، لدخوله في عموم النهى في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)[النساء:29].
السادس: في عقد التأمين التجاري: الإلزام بما لا يلزم شرعًا، فإن المؤمِّن لم يحدث الخطر منه، ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المؤمَّنُ له، والمؤمِّن لم يبذل عملاً للمستأمن فكان حرامًا(4).
ويلحظ المتتبع لهذه المسألة أن فقهاء المجامع الفقهية لما حرموا التأمين التجاري حرصوا على أن يوجدوا بديلا شرعيا له ينصرف إليه الناس، ويحل محله وهو التأمين التعاوني، وذلك للأدلة الآتية:
الأول: أن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون والتكافل، لكن مما ينبغي التأكيد عليه لصحة هذا النوع من التأمين، وجوب قيامه على مبدأ التبرع، فالذي يعلم من نفسه عدم خلوص نيته للتبرع لا يحق له أن يشترك في هذا التأمين، لما يؤول إليه الأمر حينئذ من تحقق محاذير التأمين التجاري.
الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه، ربا الفضل وربا النساء، فليست عقود المساهمين ربوية، ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
الثالث: أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع، لأنهم متبرعون، فلا مخاطرة، ولا غرر، ولا مقامرة، بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية(5).
وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- أنظر كتاب التأمين وأحكامه للدكتور الثنيان.
(2)- أنظر حاشية ابن عابدين (170/4).
(3)- أنظر القرار الخامس لمجلس مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، الصادر عن الدورة الأولى المنعقدة عام 1398هـ.
(4)- أنظر المصدر السابق.
(5)- المصدر السابق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *