من فقه البيوع النوع الخامس من البيوع المحرمة لأجل الضرر أو الغبن [النهي عن بيع فضل الماء (تابع)] ياسين رخصي

بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أن العلماء قد اختلفوا في هذا الفرع كاختلافهم في كثير من فروع الفقه، بل أكثرها، وأن تحقيق القول في هذه المسألة مطلب عظيم جليل، لجلالة متعلقه، أعني الماء الذي هو أصل حياة الكائنات ولولاه ما وجدت حياة، قال تعالى: “وجعلنا من الماء كل شيء” (الأنبياء الآية:30)، وقد امتن الله على عباده بهذه النعمة وذكرهم فضله عليهم بها في كثير من آي القرآن. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من منع فضل مائه أن الله يمنعه فضله يوم القيامة.
ولذلك وجب على المسلم معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، فإن ترك الاهتداء بهديه في ذلك، فيه من الفساد وإهلاك الحرث والنسل ما الله به عليم.
وقد بسط الإمام ابن القيم القول في هذه المسألة وحققها تحقيقا بالغا، وناقش أدلة المخالفين وأجاب عنها في كتابه زاد المعاد في فصل سماه: “ذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنع من بيع الماء الذي يشترك فيه الناس” ومنه نتابع نقل ما تبقى من مسائل.
المسألة الثالثة: هل يجوز بيع المياه المستنقعة من الأمطار إذا اجتمعت في أرض مباحة1؟
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن بين جواز بيع الماء إذا كان في قربته أو إنائه، وأن ذلك ليس محل النهي: وليس هذا محل النهي بالضرورة ولا محل النهي أيضا بيع مياه الأنهار الكبار المشتركة بين الناس. فإن هذه لا يمكن منعها والحجر عليها، وإنما محل النهي صور أحدها: المياه المنتقعة من الأمطار إذا اجتمعت في أرض مباحة، فهي مشتركة بين الناس، وليس أحد أحق بها من أحد إلا بالتقديم لقرب أرضه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. فهذا النوع لا يحل بيعه، ولا منعه، ومانعه عاص مستوجب لوعيد الله ومنع فضله إذ منع فضل ما لم تعمل يداه2.
المسألة الرابعة: إذا اتخذ في أرضه المملوكة حفرة يجمع فيها الماء أو حفر بئرا فهل كملكه لذلك؟
قال رحمه الله: لا ريب أنه أحق به من غيره، ومتى كان الماء النابع في ملكه والكلأ ثمن فوق كفايته3 لشربه وشرب ماشيته ودوابه، لم يجب عليه بذله نص عليه أحمد. وهذا لا يدخل تحت وعيد النبي صلى الله عليه وسلم، فأنه إنما توعد من منع فضل الماء ولا فضل في هذا.
وما فضل منه عن حاجته وحاجة بهائمه وزرعه، واحتاج إليه آدمي مثله أو بهائمه بذله بغير عوض، ولكل واحد أن يتقدم إلى الماء ويشرب، ويسقي ماشيته، وليس لصاحب الماء منعه من ذلك، ولا يلزم الشارب وساقي البهائم عوض.
وهل يلزمه أن يبذل له الدلو والبكرة والحبل مجانا أو له أن يأخذ أجرته؟
على قولين هما وجهان لأصحاب أحمد في وجوب إعارة المتاع عند الحاجة إليه، أظهرهما دليلا وجوبه؛ وهو من الماعون.
قال أحمد: إنما هذا في الصحاري والبرية دون البنيان يعني: أن البنيان إذا كان فيه الماء، فليس لأحد الدخول إليه إلا بإذن صاحبه4.
المسألة الخامسة: هل يلزمه بذل فضل مائه لزرع غيره؟
قال رحمه الله: فيه وجهان وهما روايتان عن أحمد.
أحدهما: لا يلزمه، وهو مذهب الشافعي، لأن الزرع لا حرمة له في نفسه، ولهذا لا يجب على صاحبه سقيه بخلاف الماشية.
والثاني: يلزمه بذله، وأحتج لهذا القول بالأحاديث المتقدمة وعمومها، وبما روي عن عبد الله بن عمرو أن قيم أرضه بالوهط (وهي قرية بالطائف) كتب إليه أنه سقى أرضه، وفضل له من الماء فضل يطلب بثلاثين ألفا؛ فكتب إليه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أقم قِلْدَك5 ثم اسق الأدنى فالأدنى، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع فضل الماء6.
قالوا: وفي منعه من سقي الزرع إهلاكه وإفساده، فحرم كالماشية.
وقولكم لا حرمة له، فلصاحبه حرمة فلا يجوز التسبب إلى أملاك ماله، ومن سلم لكم أنه لا حرمة للزرع؟
قال أبو محمد المقدسي: ويحتمل أن يمنع نفي الحرمة عنه، فإن إضاعة المال منهي عنها، وإتلافه محرم، وذلك دليل على حرمته7.
وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-المراد بالأرض المباحة التي لا يملكها أحد بعينه فهي مباحة للجميع.
2-زاد المعاد 5/709.
3-كذا في الأصل ولعل صواب العبارة: ومتى لم يكن الماء النابع…
4-زاد المعاد 5/709-710
5-قوله: “قلدك” قال في لسان العرب: أراد بقلده يوم سقيه. اهـ. والمعنى إذا سقيت الأرض يوم نوبتها فأعط من يليك.
6-قال محققا الكتاب شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط: ذكره أبو عبيد في الأصول ص: 379-380.
7-زاد المعاد 5/710.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *